دراساتصحيفة البعث

انتخابات البرلمان الأوروبي تعاقب السلطات على المستوى الوطني

ريا خوري
شهدت القارة الأوروبية ( القارة العجوز ) حملة انتخابات واسعة في دول الاتحاد الأوروبي الـ ٢٨ بما فيها بريطانيا، وذلك في فترة قاسية من تاريخه في مشهد موشّى بالقلق والتحسّب من القادم المجهول.
وفق العديد من المسارات التي تدور في كواليس أوروبا، حيث تؤكد على زحف الشعبويين الذين يسعون إلى هدم بنيان الاتحاد الأوروبي ونسيجه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ومعهم اليمينيين المتطرفين والقوميين الرافضين والمتشككين للاتحاد، هؤلاء حاولوا بالهيمنة على ثلث البرلمان، باحثين عن أي قضية تفضي إلى عرقلة للأجندة الأوروبية، فهم يرغبون في تغيير الخارطة الحالية، ووضع خارطة أخرى بمواصفات ومعايير جديدة لقوى سياسية وليدة تحكم وتسيطر في دول لها ثقلها في العالم ، لاسيما النمسا وهنغاريا ( المجر) وإيطاليا. وبعيداً عن حجم قوتهم ووحدتهم وتماسكهم وفرصهم المتاحة في المقاعد، فإن رصد الصراعات السياسية التي أوجدوها قسراً هو الأهم.
الواضح تماماً أنّ هناك صراعاً أوروبياً يمثله (فيكتور أوربان) ضد أوروبا (إيمانويل ماكرون)، والديمقراطية المباشرة لـ الليبرالية المتوحشة في مواجهة الخوف من التعددية الثقافية والفكرية والأيديولوجية، في مواجهة البراغماتية الغربية وكذلك شعارات التسامح وقبول الآخر، إضافة إلى أحزاب عريقة تقليدية لها تاريخها في بناء الأوطان تواجه أحزاباً وليدة، منها: من لم يخض غمار الحكم ولا السياسة سابقاً، ولا يملك الخبرة لذلك، ومنها من لا يمتلك إلا الخطاب التحريضي فقط ضد المهاجرين، وضد الإسلام والمسلمين، وضد المؤسسات التي تدير دفة الحكم، وضد المؤسسات الأوروبية، وضد الآخر جملة وتفصيلاً.
إنّ رسم مستقبل أوروبا هو الآخر يعدُّ هدفاً للصراعات، كيف تتحقق العدالة بين الجنسين، كيف يمكن صياغة دور جديد لأوروبا في العالم، كيف تخرج أوروبا من حصار روسيا وتبعية الولايات المتحدة الأمريكية ، من يقود المفوضية الأوروبية هل (المسيحي الديمقراطي) مانفريد فيبر، أم الاشتراكي (فرانس تيمر مانس)، مع العلم أن كليهما يسعى لشراكة مع إفريقيا التي تُعدُّ أحد مصادر المهاجرين واللاجئين، هل تعمل قوى أحزاب الشعب الأوروبي إلى جانب الاشتراكيين والديمقراطيين وأحزاب الخضر والليبراليين ضد قوى المتطرفين والقوميين؟ .
تاريخياً، تتسم انتخابات البرلمان الأوروبي، برغبة شديدة في معاقبة السلطات الحاكمة على المستوى الوطني وإيصال رسائل مزدوجة للحكومات ولبروكسل ذاتها مقر الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي، مع رغبة أخرى في الامتناع عن المشاركة السياسية، وهي ازدواجية متداخلة لم يستطع قادة أوروبا فك رموزها وطلاسمها، حتى مع وجود استطلاعات رأي تتوقع زيادة مشاركة الألمان بفارق حوالي 8% عن انتخابات عام 2014، ومن الممكن شرح ذلك بوجود ألمانيا القوية على رأس أوروبا وإدراكهم الأخطار المحيطة، مع الأخذ في الاعتبار أن ألمانيا ينمو فيها تياران يسيران بالتوازي، تيار شعبوي يميني متطرف يتمثل في (حزب البديل) حزب (البديل من أجل ألمانيا) الذي استطاع دخول البرلمان الألماني بعد فوزه بحوالي 13 بالمائة من أصوات الناخبين في الانتخابات الألمانية في العام 2017. استغل الحزب أزمة اللاجئين لتحقيق هذا الفوز التاريخي لحزب يميني في ألمانيا. والآخر تيار (اليسار الخضر)، حزب الخضر الألماني هو حزب سياسي ألماني وقد تأسس كنتيجة لحركات اجتماعية ظهرت في السبعينيات.وأعلن الحزب رسميا في 17 كانون الثاني 1980 في مدينة كارلسروي الألمانية.
كل هذا يعني أن قوتين تدعمان كتلاً مختلفة في البرلمان الأوروبي، وذلك يعزز من فرص الانقسام والاستقطاب السياسي، ما لم يكن هناك حل للتوافق على القضايا المشتركة مع بقية الأطراف الأخرى المنافسة والحليفة.
وعلى الرغم من هذا المشهد المظلم، وأمل اليمين القومي المتطرف بتحقيق طموحاتهم، إلا أنه في الفترة الأخيرة شهدت فضائح وأزمات سياسية، لا سيما التحقيقات في مصادر تمويلهم، مثل استقالة نائب المستشار النمساوي هاينز كريستيان شتراخه، العضو في حزب (الحرية) النمساوي اليميني القومي المتطرف، على خلفية فضيحة تتصل بسيدة مرتبطة بشخصية روسية هامة، قام (شتراخه) بالتفاوض معها للحصول على دعم روسي مالي، مقابل عقود حكومية ضخمة مثلما جرى مع ترامب. وبالطبع هذه الفضيحة سوف تؤثر في مجرى الانتخابات الأوروبية داخل النمسا وخارجها أيضاً، فهي دلالة واضحة على الاستراتيجية الحاكمة لتفكير بعض اليمين المتطرف، ورؤيتهم الضيقة للمصالح القومية ومدى تعارضها مع مصالحهم الخاصة، ما يطرح تساؤلاً هاماً عن مدى استمرارية أحزاب وقوى اليمين المتطرف، وهل هي مرحلة عابرة أم موجات سوف تغرق كل من يقف أمامها.
وهذا ما يدفع إلى التساؤل حول فرضيات عديدة، أولها استجابة الشارع السياسي وإدراكه المصلحة العامة من دون شعارات قومية ثبت تلفيقها وكذبها، وثانيها التغاضي عن العديد من الرسائل الخطيرة التي ستؤدي إلى تفكك دول الاتحاد الأوروبي، وعدم أخذ بريطانيا وأزمة بريكست عبرة لمن يعتبر. هناك أيضاً فرضية ثالثة وهي موازنة الشارع السياسي والمواطن الأوروبي، حيث يحق للشعبويين أن يكونوا مصدر قلق محدود للكيان الأوروبي وبنيانه، كي يتوحد الموقف من الأحزاب السياسية الكبرى وتتم معالجة الأزمات البنيوية والهيكلية المستمرة في الاتحاد الأوروبي، من هنا وعند النظر لدور تلك القوى المتطرفة وحجمها بدايةً من بريطانيا التي لديها 24 نائباً معارضاً للاتحاد الأوروبي من حزب الاستقلال برئاسة ( يوكيب) هنري بولتون الذي أعفي من مهامه وهو من أشد المعادين للاتحاد الأوروبي حيث فَقَدَ منصبه عبر تصويت أعضاء الحزب خلال مؤتمر استثنائي عقد في برمنغهام، ما تسبب باندلاع أزمة جديدة في الحزب.
لقد أفضت الانتخابات البرلمانية الأخيرة إلى تنامي دور الأحزاب الخضراء المدافعة عن البيئة. وبما أن معظم أعضاء تلك الأحزاب ليسوا من أصول أوروبية فإنهم يدعمون الهجرة والمهاجرين. وبعكس بعض التوقعات السياسية التي سبقت التصويت، تبدو النتائج الفعلية في غاية الدقة. ففي فرنسا على سبيل المثال، كان فوز المرشحة اليمينية المتطرفة مارين لوبان على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صناديق الاقتراع نصراً كبيراً لها، أليس كذلك؟ وبالنسبة للمشككين بالاتحاد الأوروبي، فشل ماكرون بشكل واضح في إقناع الناخبين ببرنامجه الإصلاحي من أجل فرنسا والاتحاد الأوروبي.
يبدو أن أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط التقليدية التي سيطرت على الاتحاد الأوروبي منذ زمن، فقدت أغلبيتها لأول مرة في البرلمان الأوروبي. وهذا يعكس ميلاً واضحاً في الانتخابات الوطنية في جميع أنحاء أوروبا، ألا وهو رفض الوضع الراهن.
في واقع الأمر، يبحث الناخبون الأوروبيون في أماكن أخرى عن إجابات، إنهم يميلون إلى الأحزاب والشخصيات السياسية التي يشعرون أنها تمثل قيمهم وأولوياتهم بشكل أفضل. أما البعض الآخر فيميل إلى اليمين القومي الذي يعد بوضع حد للهجرة ومنح المزيد من السلطات والصلاحيات للبرلمانات الوطنية وليس لبروكسل.
ويعتبر نائب رئيس الوزراء الإيطالي المبتدئ ماتيو سالفيني ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مثالين لتوجهات كهذه. أما الناخبون الآخرون، فيفضلون البديل المؤيد للاتحاد الأوروبي، مثل أحزاب الخضر والجماعات الليبرالية، والتي حققت نتائج جيدة في هذه الانتخابات.
سيكون البرلمان الأوروبي الجديد مؤيداً للاتحاد الأوروبي على نطاق واسع، لكنه منكسر أيضاً، مما يجعل وضع القوانين وإجراء التغييرات أمراً صعباً، إلا إذا علت أصوات الناخبين الأوروبيين من أجل التغيير.