بيوت الثقافة..!
حسن حميد
يكاد المرء لا يصدق ما كان يجري في الحياة الثقافية العربية حين يلتفت إلى الوراء متفكراً بالظواهر الأدبية، والأحوال الثقافية، والهمم التي امتلكها وسخّرها أهل التعبير والتفكير والإبداع لتصير دروباً، وشواهد، وكتباً، وتجارباً، وسنناً تتعلم منها الأجيال كيفما مرت الأيام وكيفما تعاقبت.
في الأسطر الآتيات سأتوقف عن ظاهرة عرفتها الثقافات في حواضر دمشق وبغداد والقاهرة وبيروت، وهي ظاهرة الصالون الأدبي، والبادية تشخيصاً على النحو الآتي، أديب أو أديبة يدعو أحدهما صحبه وأصدقاءه ومعارفه ليكونوا معاً في بيته في يوم محدد من الأسبوع، وساعة محددة من ذلك النهار يتداولون خلال الوقت المتاح لهم جميعاً الحديث في شؤون الثقافة والفكر والأدب والفنون بدءاً من المدارس الابتدائية وما تدرّسه لطلبتها وصولاً إلى الجامعة ومناهجها إلى الثقافة وشؤونها عامة، قناعةً بأن التعليم هو الراشد الأول لأي تقدم أو تطور منشودين. وقد عانت هذه الصالونات في بدايات أمرها من أمور عدة منها الفوضى، والمجاملة، وعدم المنهجية، وتفاوت المستوى العلمي، والحماسة غير المنتجة، وتقاذف الآراء، وترك الأفكار تتسرب في هواء المكان من دون ضابط أو ضبط. ولكن مع تقدم الأزمنة، صارت الصالونات الأدبية في هذه الحواضر الثقافية دمشق، القاهرة، بغداد، بيروت مدارس أو تكاد وأندية للثقافة، وتجمعات للحوار العقلاني الجاد، ومكاناً للمثاقفة والتعلّم، وجهة من جهات استنبات الأفكار، وصقل الرؤى، ومراصد لالتقاط شرارات الإبداع التي صارت فيما بعد قصصاً، وقصائد، وروايات، ومدونات نقدية.
ومن هذه الصالونات الأدبية التي اغتنت بها الحياة الثقافية في مدينة القاهرة، صالون عباس محمود العقاد الرجل القادم من مدينة أسوان المصرية الجنوبية، إلى القاهرة حيث هي الثقافة بكل ما فيها من جامعات، وإصدارات، وعلماء، وأدباء، وشعراء، ومفكرين، ومترجمين، وفنانين، والرجل لم يكن من أهل الشهادات، وإنما كان من أهل العلم والثقافة، اعتنى بنفسه ثقافياً، وعلّم نفسه بنفسه، حتى حاز ثقافة ومعرفة كبيرتين، وأتقن لغات ما كان يعرف منها سوى اسمها، وراح يؤلف، ويكتب المقالات وينشرها مجاورة لمقالات أهم أعلام الثقافة والأدب والترجمة والفنون في مصر آنذاك. ثم، وحين استوى على أمره ثقافياً، وشهرةً، ومعرفةً، نادى أصحابه ليكونوا حوله في يوم الجمعة من كل أسبوع للتداول في شؤون الثقافة والفكر والأدب والفنون والترجمة عربياً وعالمياً. ثم تطور الأمر حتى صار المكان والاجتماع والحوار جهةً ثقافية محركة للحال الأدبية والفكرية والفنية في عموم مصر، بعدما صار السؤال الطالع: ماذا قيل، في الأمس، في صالون العقاد؟!
والحق، أن المرء يرى وهو يتابع مجريات ذلك الصالون، أنه كان أشبه بالدار الثقافية التي راحت تؤسس لتخريج أهل المواهب والتعبير والفكر والفنون سنة بعد سنة. فقد التحق بالصالون ناشئة الأدب والفكر والفنون، ولا أعني هنا السن الصغيرة، وتخرجوا فيه أساتذة أصحاب شأن ومكانة. وقد أُلفت حول الصالون وما دار فيه من حوارات، وحول الأعلام الذين كانوا سادته عشرات الكتب الثقيلة معرفياً، بل إن المرء يرى أهمية تلك الأسئلة والأفكار والاتجاهات الأدبية والتربوية والسياسية والفنية التي كانت تطرح، والإجابات البليغة التي كانت تأتي من أهل العلم والمعرفة /الحضور، وكل ذلك كان وجهاً من وجوه الإسهام في تنشيط الحياة الثقافية ورفع مستوياتها لتصير رتبة عالية من رتب الثقافة والإبداع التي تقابل ثقافات الآخرين وإبداعاتهم.
إن المحدّق جيداً في نتائج سنوات الحوار داخل صالون العقاد لوجد، لا ريب، أن ثقافات العالم أجمع كانت تحط رحالها في دارة العقاد في ذلك اليوم كما لو أن للثقافة سوقاً أو مرايا أو موازين توزن بها هناك من أصحاب عقول نابهة، وعيون رائية، وذائقات مدهشة!
Hasanhamid55@yahoo.com