ثقافةصحيفة البعث

الثقافة بين التراكم المعرفي والتجديد

معظم تعريفات الثقافة تلّح على مسألة التراكم المعرفي، وتقرنها بالماضي والموروث مع ملاحظة ما يتسم به هذان الأخيران من ثبات، وجمود، وموت.
ولأني أعتقد أنّ الطريق الوحيد الصحيح للوصول إلى حقيقة المفاهيم ينطلق من معناها اللغوي فضلاً عن اعتقادٍ ثان هو أنّ أهمّ مصادر الثقافة هو اللغة بوصفها وسيلة تبادل الثقافات العالمية التي تُشكّل بفروعها مجمل الفكر الإنساني، فإذا استنطقنا الأصل الثلاثي (ثًقِفَ) عن معناه اللغوي صرّح بمعنى الفطنة والحِذق؛ وإذا عرفنا أنّ الفطنة هي التبيّن والعلم، وجب التنبّه إلى الصياغة المصدرية للكلمتين السابقتين مع صيغة المبالغة للمصدر (التبيّن) التي تفيد طلب البيان ومضاعفته، والفطانة هي قوة استعداد الذهن لإدراك ما يرد عليه، وإذا عرفنا أيضا أن الحِذق هو السكّين المحدّد القاطع، وأنّ الإنسان الحاذق هو إنسان بيّن الحجّة، وقوله فصل، والحاذق هو من يوغل في ممارسته حتى يمهر فيها، فإذا عرفنا ذلك يحضر السؤال هل لدينا هذا المثقف الموصوف، وما نسبة وجوده بيننا، وإذا وُجِدَ هل يمتلك الشجاعة الكافية لاختيار الصواب مهما كان جديداً، ومختلفاً، أم أنه سيخشى تهديدات كثيرة أّوّلها التكفير وليس آخرها قمع حرية التفكير، والرأي والاعتقاد؟. وبالإمعان في المعنى اللغوي للاستعانة به على استلهام معنى الثقافة وتعريفها وتحديدها نجد أنّ ثَقِف من الثّقاف وهي الأداة التي تُثقّف بها الرماح لتستوي وتعتدل، ما يدفعنا لاستخلاص فائدة أخرى حول مهمة الثقافة والمثقف وهي تقويم المعوّج، ويدفعنا كذلك لطرح أسئلة جديدة ولتكن التالية: هل نحن اليوم نؤدّب ونُعلّم ونُهذّب كما ينبغي، وهل نمتلك الإيمان والقناعة الفعلية المرتبطة بالاستعداد للعمل في مجال التعليم والتأديب والتهذيب والصقل.
ومع قراءة المزيد من المعنى اللغوي نجد أن (ثَاقَف) تحمل معنى جَالَد، وخاصم بالسلاح ونتذكر ما ورد في القرآن الكريم (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) ما يدفع للشعور بالقلق وخوف تأويل هذا المعنى إذا عومل من قبل أفراد، أو جماعات متطرفة دون أدنى تأويل، ودون أية محاولة اقتراب جادة من مقاصد اللغة ومحاورتها ومحاكمة ما تُترجَم إليه من أفعال، وتعديل وجهتها العمياء لتغدو مبصرة حين نُطوّع المعنى لتكون الثقافةُ سلاحاً ثم لنملك الصبر والجَلَد الكافي والمحاولات غير اليائسة لاستخدام هذا السلاح بطرق سلمية وحضارية لنصبح مثقفين حقيقيين وننشر الثقافة المطلوبة. وفي العطاء اللغوي الثرّ لكلمة ثَقِف أيضا: ثقف الشيء أي ظفر به والسؤال هنا بما ظفرت كلُّ ثقافتنا التي اعتنقناها لقرون مضت؟ وهل ظفرنا بأعدائنا الحقيقيين لنقتلهم؟
إن اللغة تُعلّمنا كيف تتفرّع معاني اللفظ الواحد وتتعالق وتعلّمنا أيضا أنّ الحياة الإنسانية والوجود البشري برمته هو صورة عن اللغة، وهو ترجمة لـ (كن فيكون) وفي المعنى اللغوي أيضا الثقافة هي العلم والصناعة، فهل العلم في مجتمعاتنا هو على ما يجب أن يكون عليه، وما هي الصناعات التي نشتهر بها ونُصدّرها إلى العالم؟ لقد ازدهرت دوما عبر التاريخ ومؤخرّا خاصة صناعة الموت والدمار والعهر، فهل هذا دليل على الثقافة التي تستقيم معها الحياة أم الاعوجاج والغباء؟
الثقافة هي تحدّ حضاريّ لأنها سمة شاملة للإنسانية، وهي للمفارقة خصوصية أيضا، لكنّها خصوصيةٌ مرِنَةٌ قابلةٌ للتغيير والتجديد والتأثّر والتأثير والتحوّل والنمّو والحياة.
الثقافة الحقّة هي مفهوم شامل لكلّ جوانب العيش المشترك المُتحضّر في إطار من التواصل والتبادل، وقد أعطت الفلسفة للثقافة حقّها من التعريف المُنصِف حين جعلتها مكوّنا أساسيّا للسلوك الإنساني، فالفلسفة تُعرّف الثقافة بأنّها العلاقة الجدلية بين المعارف والفنون والعلوم والأديان والأخلاق والقوانين، وبسبب هذه العلاقة الجدلية فالتغيير والتجديد هو أهم عنصر في الثقافة ما يؤدي إلى أن الثقافة الحية هي المتغيّرة والمتجدّدة والمرنة، وبناء عليه فالواقع هو أن الإنسان لا يستطيع بسهولة أنْ يُغيّرَ ثقافته لكنّ الواقع الأكثر أهمية هو أن الإنسان يجب أن يغيّر ثقافته حتى يغدو إنسانا يتعلم كل يوم أشياء جديدة في إطار معرفي شامل يفيد به نفسه والآخرين.
د. وضحى أحمد يونس