دراساتصحيفة البعث

حرب باردة مزيفة

عناية ناصر

لم يتمكن المحللون ومنذ عدة سنوات من الاتفاق على وصف لحالة العلاقات بين روسيا والغرب، فتم استخدام مصطلحات الحرب الباردة “الجديدة” أو “الثانية” في كثير من الأحيان أكثر من غيرها. إن فكرة “الحرب الهجينة” التي اقترحها مارك غاليوتي هي فكرة شائعة أيضاً، ولكن هذا المصطلح يخلق مزيداً من الالتباس أكثر مما يوضح. يصف بعض المحللين بأن حالة عدم اليقين هي السمة الرئيسية للعلاقة؛ مما يعني وجود حالة انتقالية في العالم. ربما يكون الوصف الأكثر دقة للحالة الراهنة هو التنافس الاستراتيجي بين القوى العظمى في عودة للعلاقات الدولية إلى قواعدها التاريخية، في ظل الظروف التكنولوجية الحديثة. ومع ذلك، فإذا تم وصف الحالة الراهنة بشكل مجازي على أنها حرب باردة، فلا ينبغي إغفال الاختلافات الواضحة بين الحين والآخر.

يمكن وصف المواجهة الحالية بين روسيا والغرب بأنها نسخة مزيفة من الحرب الباردة ، إذ لا يكاد  يظهر فيها أية أعمال عدائية، والمواجهة رمزية إلى حد كبير، والهدف من ذلك هو جعل الخصم يصوب مساره أو تقويض قوته الداخلية.
وتحتوي هذه الحرب الباردة المزيفة على بعض ميزات الحرب الباردة الكلاسيكية، لكن هذه الميزات تم تخفيضها أو تغييرها بشكل كبير. لقد أعطت المواجهة الاستراتيجية العالمية للجانبين الطريق لمعادلة استراتيجية أكثر تعقيداً، يتزايد فيها عدد المواجهات الإقليمية بسرعة، إذ يوجد ثلاثة لاعبين، لكن بعض المحللين يعدون من 10 إلى 15 مركزاً للقوة يتمتع بالاستقلال الذاتي.

على الرغم من أن الردع النووي يظل ثابتاً استراتيجياً، إلا أن الحرب الشاملة أصبحت أقل احتمالاً، فالمناوشات المحلية غير المباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا تحمل القليل من التشابه مع المواجهات الطويلة، مثل الحروب في فيتنام أو أفغانستان. في غضون ذلك، يتعين على كل من موسكو وواشنطن أن يتفاعلا بشكل مستمر مع الأزمات المتكررة وغير المتوقعة بشكل متزايد.

في ظل هذه الظروف، فإن مفهوم “المنافس” أو “الخصم” الذي كان مقدساً في السابق تقريباً ، يفقد قيمته، كما هي الحال بالنسبة لمفهوم “الحليف”، والمواجهة السابقة بين الأنظمة الاقتصادية المستقلة قد تلاشت عملياً ممهدة الطريق للحواجز التجارية في إطار اقتصاد عالمي واحد. لقد حلت وسائل الإعلام  الصاخبة محل التنافس العقائدي على الرغم من أن الوثائق النظرية للناتو قد أدخلت مؤخراً فكرة روسيا كتهديد حضاري، بزعم أن الحضارة الروسية تستند إلى مبادئ مختلفة نوعياً عن الحضارة الغربية. ولكن في الواقع، تخفي هذه الادعاءات تمييزاً مفاهيمياً بين روسيا ونهج الغرب لمعضلة الأمن والحرية. ويعتمد الغرب فرضية أن حرية الناس هي أثمن شيء على الإطلاق، مبرراً بذلك انتهاك السلام، والإطاحة بالأنظمة، بل ربما خوض الحرب بذريعة تحرير شعب ما.

كل هذه الأفكار التقليدية متأصلة في التجربة الاستراتيجية لروسيا والغرب على التوالي، ويصر كل منهما على أن الحقيقة في صفه. كانت هذه النسخة المزيفة من الحرب الباردة على الأرجح حتمية، ولكن البداية تأجلت فقط بسبب الأوهام المتبادلة بين الجانبين فيما يتعلق ببعضهما البعض في التسعينيات. يعتقد العديد من المراقبين في روسيا أن قانون تأسيس روسيا وحلف شمال الأطلسي لعام 1997 كان خطأ، وأن مجلس روسيا – الناتو الذي أنشئ في عام 2002 لم يعمل كترتيب لتسوية النزاع أبداً. كان المقصود منه بدلاً من ذلك أن يرمز إلى الوحدة المقبلة بين روسيا وحلف الناتو، وهو أمر لم يتحقق أبدًا. خلال الأزمتين الأمنيتين الأوربيتين خلال الـ 15 سنة الماضية – في جورجيا في عام 2008، وأوكرانيا في عام 2014 – توقف المجلس عن العمل كلياً.

إذاً الحرب الباردة المزيفة هي توازن تم الحفاظ عليه للرغبة في وجود شيء أفضل. لا يمكن للجانبين تجاهل الاختلافات بينهما، لكنهما لا يريدان تدمير علاقاتها القائمة. وتختلف الحرب المزيفة الحالية عن حالة الحرب المزيفة الكلاسيكية، حيث كان المعتدي واضحاً، وأنها كانت تؤدي إلى تأخير الحرب العالمية فقط، فهي حالة مستدامة طويلة الأجل. يرى كل جانب الحل في تأكل إمكانات الخصم، أو أنه سوف يصل إلى رشده في مرحلة ما ويغير سياسته. على أي حال، تعتقد كل من روسيا والغرب أن الوقت في صالحه؛  لذلك لا يسارع أي منهما إلى التصعيد.