فقط.. حق الانتفاع!؟
د. نهلة عيسى
قدمي على الدرجة الأخيرة من سلم الصبر, وملف اعترافي ملصق على بؤبؤ عيني, وقعته مكرهة بيدي, دون أن أرى, أو ربما لأني لا أريد أن أرى, يقول: زمن الموت لن ينتهي, هو فقط سيتحول إلى ضمير مستتر, لا تتندروا أحبتي, لست أمارس دور زرقاء اليمامة, لكني رأيت في شاشة أيامنا, وخلف بقايا البقايا, أن الغربان الواقفة على أسلاك تفاصيل حياتنا تحاول أن تبدو يمامة, وخطوط الجبين والعيون والأفواه حرب, فأشعر أني وحيدة, وأن معابر الخروج من الحرب بالصمت عما جرى, هو تطويب للوطن لمن تاجروا بنا وبالوطن, وحبل للنجاة من جريمة, وسفناً غارقة, وخناجر صامتة, وطحالب, وسلالاً من القطط النافقة, وحزناً في عيوننا نحن من نرى ما نرى, يتصبب خجلاً ممن يستشهدون دون أن يسألوا: لماذا, وما هو الثمن؟ رغم أنه وفق ما أرى, أن السهم الذي أتاهم من الخلف, يأتينا من ألف خلف, لكن صور التلفاز تتجاهل الدم المرسوم على كل كف, وتلفق إبرة تحيك خيط الصواب مع خيط الخطأ, لكن دعوني أتساءل بسذاجة: هل يشبه النسر الثعلب؟ فحياتنا ليست سيفاً لسيف, هي دائرة طباشير, من, إلى, عن, على, والكل يغني على ليلاه, وليل وطني يبدو مديداً, كصاحب الظل الطويل, فاعل مجهول النسب, وآباء كثر!؟.
أراقب وقائع ما يجري وجرى, وشفاهي تلعق الدموع ملحاً, وببساطة عجيبة, رغم انه ممنوع علينا العجب, تنام أعين الجبناء, ودماؤنا لا تنام, تراق كل يوم, وتصب كل يوم في فناجين “الاستسهال” وفناجين إعادة تعويم الجريمة, حيث الجبهات بحر, وصدرنا يواجه السيف في كل جبهة, وفي الظهر الجدار, فإن كان لابد من السلام كما يقول التلفاز, فهل يعني ذلك أنه على عقولنا السلام!؟.
في روضة الأطفال في غابر الزمان علمونا, باسم الله الرحمن الرحيم يُفتتحُ اليوم, وفي ثماني سنوات من موتنا, كلما قطعوا رأساً من رؤوسنا بالجوع أو بالسيف, قالوا: بسم الله الرحمن الرحيم, ونحن منذ ثمان في انتظار أن نسمع قائلاً يقول: صدق الله العظيم, أيها الرب: أتمعن في الوجوه فلا أرى إلا أنقاض أنقاضنا, ولا أرى إلا الحرائق تشب في ثيابنا, بيوتنا, قلوبنا, والماء يحجزها التتار, فهل ترى ما أرى, أم أنه السراب!؟.
أيها الرب: فمنا مزموم, والصوت صدأ, والشكوى عار, وكلما أعتدنا جرحاً, رشق عابرو جرحنا عليه ماء النار, “الصمت على الأخطاء” ليس مسيحاً مرتجى, بل قهوة الموتى المرة, نتجرعها إكراماً لجاهة تظن (وبعض الظن إثم), أن حديثاً يدور بين القاتل والقتيل, سوف يجلو عن عيوننا الليل, ويجعل وجهنا نوراً, أيها الرب: مشتاقون نحن للشمس, للحب, لعالم بلا حقد, لعالم بلا وجع, لكننا لن ننحني لكي نأكل, إذ لن يضير شاتنا سلخها بعد الذبح, عاماً آخر من الحرب, بل ربما عامين, كل الأيام سواء, شرط أن تكون على كل من كان سبباً في الحرب, “فالصمت على الأخطاء ليس مسيحاً مرتجى, بل سدى, وقت ضائع سدى, في محكمة لا يهمها من القاتل ومن القتيل, ولا تميز بين من بدا ومن نهى, هي فقط قهوة مرة!!
أيها الرب: في روضة الأطفال علمونا أن نعوذ باسمك من الشيطان الرجيم, ومنذ ثمان في بلادي مفرخةُ شياطين, وفي كل تفاصيل أيامنا لم أرَ سوى شياطين, وقد استعذتُ بك منهم ألف مرة ومرة, وملف اعترافي في يميني نيابة عن كل المكلومين في هذا الوطن, ونيابة عن كل من لا يرون في الصمت مسيحاً مرتجى, أقول فيه: نقر لكم تحت ضوء الأمر الواقع, بأنكم سادة المكان والزمان, أصحاب مفاتيح كل الأبواب, بما فيها أبواب الجروح.. نقر لكم بما ترغبون, لكن فقط اتركوا لنا حق الانتفاع بالوطن, لعل حقنا بالانتفاع يعيق بيعكم للوطن, وانتظرونا في غد, نعدكم ألا ننسى فيه وجوهكم, ولا وجوه من عادوا إلى حضن الوطن, لأنه لا يجب بزعم السلام, أن يستوي النسر والثعلب!؟.