جرعة زائدة!؟
د. نهلة عيسى
تعطلت سيارتي طوال الأسبوعين الماضيين، فغرقت في مستنقعات ورش الإصلاح، ومافيا سيارات الأجرة، حيث الجميع بلا استثناء طبيب بيده وحده العلاج والشفاء، متجهم، تجهم العارف الحكيم، قليل الكلام، ساخر النبرة، متعال، شديد الترفع عن الرد على الأسئلة، شيخ كار، ومعلم، وخبير، وأول من فعل، وخير من قام، وسيد من تفحص موتورا، أو فك برغيا، أو وضع يده على “دركسيون”، أو نفخ دولابا، أو أوصل زبونا إلى وجهته، أي أنهم جميعاً عباقرة مكرسون، وآتون بما لم تأته الأوائل، ولن تأتيه الأواخر، ووحدي من كنت الغبية!.
والحقيقة أن هذا السلوك، وهذا الإحساس المتضخم بالذات، على ضآلة الذات، هو سلوك، وإحساس معظمنا في بلادنا الحزينة، حيث الكل يتعامل مع الآخرين باعتباره يملك براءة اختراع ما يفعله وما يقوم به، وأعظم شخص في مضماره أنجبته البشرية، وأن لا وقت لديه للتعامل مع جهلك الذي لا يغتفر بأهميته، لأنه ذاهب بعد ثوان إلى السويد ليستلم جائزة نوبل لإصلاح الحنفيات، أو قلي البطاطا، أو روي النكات، أو تحميص الفستق، أو إعطاء الدروس الخصوصية، أو قطع الرؤوس، أو بناء بيوت عشوائية، أو كتابة البوستات!!
والمصيبة أن هؤلاء، والأصح نحن (الطبيب، والوزير، والمقاول، والطالب، والحرامي، والفاسد، والمزارع، وبائع الفروج، ووو… الخ) يتحدثون، وكأن ما يقولونه هو حكمة الحياة مقطرة، وخلاصة كل الكلام، وفصل كل فعل وقول، حيث الأنا بلا سبب يستدعي، متورمة إلى حدود لا يمكن أن تسعها أرض، أو تحتملها سماء، ولا عجب، ألسنا أحفاد عمرو بن هند، المعتدي، الجائر، القائل: “إذا بلغ لنا الفطام صبياً/ تخر له الجبابر ساجدينا/ وألا لا يجهلن أحد علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا”!؟ ليدفع بعد ذلك حياته على يد عمرو بن كلثوم ثمناً لجهله، ولكن جيناته الجاهلة لم تمت، فهي فينا حية لا تموت، وربما حرب الثماني سنوات خير دليل!!
تعطلت سيارتي، فعطلت جيبي وجيوب الأصدقاء، وذكرتني بكل أعطالنا، حيث هناك شيء ما (إضافة لكل ما سبق) ليس مفهوماً، ولا صائباً، ولا مطمئناً، ولا معلناً يحدث في ذواتنا، بيوتنا، شوارعنا، أعمالنا، أعصابنا، وقلبي يقف على رؤوس أصابعه متوجساً من هذا المحسوس، المهموس به، من أن يتحول في لحظة إلى قنبلة محشوة بالغضب المر، يصعب إبطالها، في ظل واقع يصر فيه الجميع أنهم على صواب، لتُسدل ستائر الغموض على الحرب وأسبابها، وصناعها، وتجارها، ولنبقى جميعنا خارج كل مساءلة أو حتى مجرد سؤال: عن لماذا حدث ما حدث، ومن أي خروق دخل الآخرون علينا، خاصة وأن حناجر المجتمعين في كل مكان، مصرة على أننا أنبياء، والآخرون جحيم، وكلنا لا يعرف من فتح لهم الباب!؟
تعطلت سيارتي، فتعاطيت مكرهة جرعة زائدة من التفاخر المريض بأي شيء واللا شيء، وأصغيت مضطرة، صامتة، عشرات المرات لبشر يقولون لي: دكتورة أنت لا تعرفين!! وهم يتحدثون عن قصص وأمور كانت قد نستها جدتي قبل أن تموت لأنها بديهيات، وقوطعت في أسئلتي، باعتبار أن أسئلتي حمقاء، وكانت جريمتي بما أنني لا أفهم “بجوان الكولاس”، فيجب أن لا أسال عن جوان الكولاس، ولا أن أعترض على أن التكسي الذي أدفع له آلاف، يبدو وكأنه مزرعة خنازير، أو خارج للتو من فم كلب، ولا أن أقول عن شيء ولو سهواً أو مجاملة: أعرف، كيف أعرف أنا.. في حضرة سادة العارفين!؟
تعطلت سيارتي، فقضيت أسبوعين وأنا أهز رأسي كالطفلة المطيعة، أداري أن يُسمع صوتي، لئلا يخدش معزوفة “الأنا” الوطنية، واكتشفت نعمة الصمم في بلاد، حتى الرصاص لم يخرس فيها الأنا، وترفض أن تسمع، لعلها تخشى أن تفهم، أن الأنا كانت مفتاح عبور الشياطين إلينا!.