هل غيّر البعث من طريقة تفكيرنا؟
د. خلف المفتاح
منذ أكثر من خمسين عاماً حكم حزب البعث العربي الاشتراكي سورية، وحقّق إنجازات مادية واقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة، شكّلت مشهداً جديداً في سورية من حيث الشكل العام، حيث أتيح التعليم المجاني للجميع والطبابة والخدمات الأخرى، وتحسّن الوضع المعيشي للناس، وتقلّصت الفوارق الطبقية في المجتمع، وحقّقت معدلات التنمية مستويات متقدّمة، سواء في الصحة والتعليم والاقتصاد وغيرها، وأقيمت مشاريع ذات طابع استراتيجي، سواء السدود أو شبكات النقل والاتصال والعمران وغيرها.
وبشكل عام أصاب المجتمع السوري تحوّل حقيقي على الصعيد الاقتصادي والخدمي والتعليمي، وتغيّرت إلى حد ما الخريطة الاجتماعية بما ينسجم واستراتيجية البعث في هذا المجال، وفق ما ورد في دستوره ومنطلقاته النظرية ومقرّرات مؤتمراته والخطاب الذي تبناه بعد الحركة التصحيحية التي قام بها القائد المؤسس حافظ الأسد وخطاب التطوير والتحديث الذي تبنّاه الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد، وما أنجز كثير وكبير بكل المعطيات والمؤشّرات.
ولكن السؤال الأهم الذي طُرح ويطرح نفسه في ظل ما شهدته سورية خلال السنوات الثماني الماضية من الحرب التي شهدتها، والأزمة التي عاشتها، وجملة المواقف التي اتخذت على الصعيد الداخلي من القوى السياسية والمجتمعية بشتى تصنيفاتها الطبقية والأيديولوجية، وفي مقدمة ذلك المنتسبون لحزب البعث العربي الاشتراكي، وهم بالملايين، وكذلك أحزاب الجبهة، الشريك السياسي للبعث منذ حوالي أربعة عقود ونيّف: هل ارتقى مستوى الوعي العام عند كل هذه القوى إلى الدرجة التي مكّنتهم من اتخاذ المواقف من الحرب، ومواجهتها في كل الساحات العسكرية والفكرية والإعلامية والمجتمعية، بما ينسجم مع الانتماء الفكري والحزبي والعقائدي، الذي يفترض أنه قد تشكّل بعد قيادة الحزب للدولة والمجتمع ما يزيد عن خمسة عقود؟. لا شك أن الجواب ليس بتلك البساطة، ولا بذلك التعقيد، من خلال الاستعانة بالمؤشّرات الموضوعية التي تظهر شكل وحجم الاستجابة العامة، وجملة المواقف التي اتخذت، وحجم التضحيات التي قدّمت، انطلاقاً من فهم ما حدث، وتفسير أسبابه وأهدافه وطبيعته، وهذا يعكس مستوى من الوعي العام للجمهور السوري.
وبالاستناد إلى ما تمّت الإشارة إليه، يمكننا القول بشكل عام: إن الانتماء للأحزاب السياسية، بما فيها حزب البعث، لم يشكّل بالمعنى العام شكلاً من الاستجابة للتحدّي الحاصل بما ينسجم مع البنية الفكرية والثقافية والتوعوية، التي يفترض أن البعث، كحزب وأيديولوجيا، قد شكّلها في المجتمع، وبالمقام الأول منتسبيه، بدليل أنه تمّ فصل وطرد عشرات الآلاف منهم من الحزب، بسبب مواقفهم السياسية، وانخراط العديد منهم في صفوف المجموعات الإرهابية المسلّحة أو “المعارضة الخارجية”!. إن هذه الحقيقة القاسية لا تعكس قصوراً حزبياً فقط، بل قصوراً ثقافياً وتوعوياً بالمعنى العام، أو ما يطلق عليه فلسفياً عند بياجيه اللاشعور المعرفي، الذي يستدعي من الماضي الحالة التي تناسبه، وتشكّل معرفياً وثقافياً وفق بنيتها العقلية، حيث حقله المعرفي الذي يحدد نظرته للمجتمع والعالم والكون، ومن خلالها نظرته للأحداث، ولاسيما السياسي منها.
إن تلك المواقف تطرح سؤالاً مهماً على العاملين في حقل الأيديولوجيا والسياسة ومنظري الأحزاب وقياداتها يتعلق بالقدرة على تغيير آليات التفكير عند المجتمع وثقافته وبنيته العقلية، بما ينسجم ويتسق مع الأيديولوجيا المتبناة، وهل استطاعت تلك الأحزاب والقوى السياسية إحداث تغيير في ثقافة المجتمع ووعيه، أم أن المسألة اقتصرت على الجانب المادي فقط دون أن تصيب البنية الفكرية والثقافية والاجتماعية؟، وهل تغيّر العقل المكوّن ومحركات البحث، أم أن التغيير أصاب (غطاء المحرك) دون غيره؟.
أسئلة برسم قادة القوى السياسية وصنّاع الرأي ومنابر الثقافة العامة تصل إلى درجة التحدي الوجودي والهوياتي راهناً ومستقبلاً.