رخص السير!؟
د. نهلة عيسى
تعرضت في الأسبوعين الماضيين لحملة تسفيه ممنهجة, قادتها أبواق من يسمون أنفسهم “بالثوار”, واستجاب لها بعض ممن يسمون أنفسهم بالموالين! قيل فيها عني رهيبة, غريبة, عنيدة, غضوبة, حمقاء, جسورة, شبيحة!؟ والحقيقة أن كثير مما قالوه صحيح, ولذلك سأكمل أنا لهم اللائحة هنا؟ نعم أنا رهيبة, لأنه كلما ارتفع في وجهي سور, أمط جسدي كما القطة, وأقفز لأعلو السور, وأؤمن بحياة واحدة, وأبواب لا حصر لها, للدخول إليها والخروج منها, وأحرص على اختيار أبوابي, وأكره المفاتيح, والضرب, والطرح, وأعشق القسمة, لأنني أؤمن أن الحياة أقصر من أن نقضيها في جمع ما لا يمكن أن يجمع, إذ هل يمكن أن أستوي أنا وهم في العملية الحسابية نفسها!؟
غريبة, ما العيب, وما الخطيئة؟ أنا أنثى يوم ولدت قامت قيامة جدتي, لأنني كنت ثالثة ثلاث من البنات, فحملني أبي بين ذراعيه, ووهبني للسماء, نكاية بالجدة, فباتت سكنى الريح تروق لي, أسند ساقي على غيمة, وفوقي سماء, وتحتي سماء, ويكفيني ما يعد به الحلم, على الأقل في الحلم, لا خاسر سوى الموت, وأنا بغبطة.. وربما بخبث من يتودد إلى سمائين, أقع في غرام الشيء وضده, والطريف أني أرى الجمال في الشيء وضده, فما العيب؟ والرب خالق الأضداد لكي نفهم: لا يظهر الحسن إلا في حضرة الضد, فلعلكم تعرفون الآن لماذا كلما هوجمت أزداد قدْراً!؟.
عنيدة, أعترفُ!؟ أنا كائن فيه كل أحد: فضول حواء, وظن آدم أنه الأسمى, وغيرة إبليس من الشريك, وحرب قابيل وهابيل, وغرابهما, وتلك المرأة التي تنازعا عليها, غيب النسيان اسمها, ولم تغب الغواية, ترتدي في كل حين وجهاً, يلائم ما نحب أن نرى, فنجري صارخين: هذه هي الحياة, ثم عندما يقترب الموت, نتهم الشياطين, فيكون بعضنا يعني ما يقول, وآخرون يغشون في التهجئة, ويعولون على رب رحيم, أما أنا, فعيبي أني أجيد القراءة, وأقبل أن في جلد كل واحد منا إلى جانب هابيل.. قابيل, وتذكروا.. الملائكة ليسوا بشراً, وإبليس ملاك, ووحده الإنسان, بعض من الرب, لكن تراكم بشراً!.
غضوبة, أنا كتلة من الغضب! أنا بنت بلد لم تُرفع الحرب عنها مذ وُجدت, آلاف باعوا أنفسهم, وباعوا البلد, وعمروا مقبرة لنا, حولوها لمزار دولي بتعرفة دخول, وبسطة على بابه, فيها لكل ضرس لون, ولكل لون سعر, ووقفوا على الباب يدللون ويسمسرون على العزاء, بأرخص الأسعار, وتركوا البوم على راحته ينعق في الوطن, متشائماً من البشر, وأنا أعيش وحتى أموت, لا فضل لي سوى أنني لا سعر لي, ولم أبع, ولن أباع!.
حمقاء, لِمَ لا؟ أنا بنت أخطائي, الزير أبو ليلى المهلهل, بعض جيناتي, أربعون عاماً من الحرب قضاها, رد فعل على صراخ “اليمامة” وأبتاه, لا جساس عاد, ولا الناقة المعقورة غَفرت, ولا ثأر اليمامة ارتوى غليله, لم يبق من حرب البسوس, سوى الحماقة, نتوارثها جيلاً خلف جيل, وعاماً فعامَ, من قال: إن الحماقة داء لا دواء له, لم يكن شاعراً, بل كان طبيباً!.
جسورة, أظنني جسورة, فقد حنثت عشرات المرات, موعدي مع الموت, ربما أنا الصندوق الأسود في هذا الوطن المحطم, لكن صوتي ليس شريط تسجيل لمن رحلوا, أنا صوت ما قالوا وما فعلوا, ووجهي بلا قناع يحتقر خيم عزاء, ويراها مجرد أقنعة, يطوب فيها الثعلب حملاً, والحمار حصاناً, وأشباه الأميين عباقرة, والخونة أيقونات وفاء وطني, أما شبيحة فأقبلها إذا كان حب الوطن هو من وجهة نظرهم تشبيح, أنا مثل وطني, ما أنا عليه, وأفتخر, وهم ما هم عليه, مجرد ركوبة لكل شذاذ العالم, وأظن أن حتى من يمتطونهم يجدون أنه قد آن الأوان لأن تسحب منهم رخص السير!!