في: الحزبيّة … والعلميّة
لازالت مجتمعاتنا ولغتنا العربيّة تعاني من مشكلة المصطلحات الوافدة وارتباطها ببنية اللغة، وبتقاليد المجتمع وتطلّعاته، وبالرغم من إثراء المصطلح للغة وللوعي الجمعي إلا أنّه يستمر يحمل على ظهره حملاً وافداً ثقيلاً: إيديولوجيّاً، وعلميّاً على ما بين الإيديولوجيا والعلم من خلاف.
وتزداد وطأة الحمل حين يتصل الأمر بالمسألتين السياسية والمجتمعيّة ما يجعل العقلاني يفكر بالجدوى، وبالانعكاس الإيجابي على المجتمع والوطن أولاً وآخراً ولا سيّما في هذه الظروف.
فلا يمكن القفز فوق المشكلة التي تعانيها اليوم مجتمعاتنا العربية والناجمة عن حدّة الاستقطاب الطالعة، خاصة تلك التي نعيشها الآن في المجتمع الوطني في سورية ولا سيما بعد الإنجازات الواعدة والمتحققة والمستمرة في هزيمة التطرف والتكفير والإرهاب.
ويواكب هذه الإنجازات بالمقابل حوار، بل سجال فيه غير قليل من الحدة والانفعال بين الأطياف الوطنية العاملة سويّة على دعم مؤسسات الدولة الوطنية، حتى يكاد المرء يستغرب هذه الحدّة وذاك الانفعال اللذين في غير قليل من الأحيان يكادان يصلان حد تبادل الاتهام بالتطرّف.
فقد أولت أدبيات أحزابنا الوطنية منذ أربعينيات القرن الماضي هذه الظاهرة اهتماماً واضحاً في سياق تأهيل منتسبيها ودفعهم إلى نوع من الإيديولوجيا. ولا ينسى المهتمّون كيف كانت بداية الإعداد للمنتسبين إلى بعض الأحزاب تُبنى على تعميم تعاريف لمصطلحات سياسية واقتصادية واجتماعية لم تعد أجيال اليوم تفهمها أو تعبأ بها: مثل كومبرادور – شمولي – تكنو قراط – ثورة مضادة – تقدمي – ليبرالي … إلخ.
ومن التحديات التي تواجه مجتمعاتنا العربية اليوم ومؤسساتنا الفكرية والتربوية والسياسية هي أنه مع تقدّم العلوم ومنجزات الحداثة، ومابعد الحداثة يتخلّف عندنا الوعي الجمعي في المجالين السياسي، والمعرفي بشكل لم تكن أوطاننا تعاني منه في القرن الماضي، وآية ذلك المشهد الدامي والمؤلم الذي تئن تحت وطأته هذه الأوطان وتلك المجتمعات منذ أواخر 2010، مع العلم أن الفكر النهضوي الوطني القومي التقدمي قدّم صياغات وإجابات واضحة على سؤال النهضة والتقدّم منذ القرن الماضي، ولايزال يقدّم، لكن المشكلة هي في أن الأجيال الطالعة اليوم إلى المستقبل لم تعد تجد في هذا ما يجذبها ويلفت اهتمامها، وهي ترى في الالتزام، وفي الاصطفاف الحزبي، وفي الحياة الحزبية قيوداً ليس من السهولة عليها قبولها أو الأخذ بها.
صارت اليوم الحياة الحزبية بحاجة إلى تفكير جديد، وإلى اجتهاد سوسيولوجي وسيكولوجي فردي وجمعي، ولاسيما أن الأطفال والشباب، حتى الكبار صاروا أسارى الجوال ووسائل التواصل، ولم يعد للكتاب قيمة حتى في الجامعات التي يلجأ الطلبة في مختلف الكليات فيها إلى الملخّصات والفيس بوك… وهذا معطى جديد، على الأحزاب أن تلحظه وهي تعمل بالضرورة على تسليح كوادرها بمنجزات العلم بهدف التطور والتقدم.
إن فاعلية الحياة الحزبية الوطنية رهان واعد يجب أن يستمر في مناخ حدة الاستقطاب المستقرة والوافدة، وينجح هذا الرهان كلما اقترب من “العلمية” وابتعد عن “الإيديولوجيا” التي تتأهب في هذا الزمن للرحيل. تلك الإيديولوجيا التي طالما نأى حزبنا عن الصارم منها، فكان فكره وعمله ينطلقان من المتكامل لا الكامل، ومن الأدلة على ذلك: ميثاق الجبهة الوطنية التقدمية – خطوات الوحدة مع بعض الأقطار العربية – الطريق العربي إلى الاشتراكية – اقتصاد السوق الاجتماعي – نهج التسامح والمصالحات الوطنية لتعزيز التماسك الاجتماعي. إنها البراغماتية، وليست الإيديولوجيا.
فلابد من إعادة النظر في الأسباب التي دعت رفاقنا في الستينيات إلى الإقرار بأن إيديولوجيّة حزبنا تتميز بـ : العلمية – والثوريّة، وقد وضع الحزب يومها العلمية والثورية في سياقهما الصحيح ففرّق بين العلمية والاستسلامية العلمية، بينما اليوم نستثمر في مصطلح العلمانية الوافد من تربة أجنبية جراء ظروف خاصة في زمان ومكان مختلفين، مع الإشارة إلى ما نجم عن هذا الاستثمار من هياج وانقسام واستفزاز يدفع بعضنا إلى التفكير بتنحية هذا الطرح والمصطلح جانباً عبر تقديم “العلميّة” عليه.
وما أصاب “الثوريّة” من انزياح كان أشد وأقسى مما أصاب العلميّة، خاصة بعد أن ادعى حثالة العصر والتاريخ “الثورة” شعاراً بالمأجورية والتطرف والتكفير والاقتران بالإرهاب.
بالنتيجة، في واقع كالذي نعيش لاضير في إعادة النظر في المفهوم السلبي الشائع للبراغماتية والذرائعية، دون غض النظر عن البعد الأخلاقي والالتزام الوطني.
د. عبد اللطيف عمران