وا لغتـــــــــــاه!
د. نضال الصالح
يوماً بعد آخر يزداد حال اللغة العربية وهَناً على وهن، وربّما نزْعاً على نزْع. اللغة التي جمعت محاسنَ اللغات كلّها، ووضعت السماء سرَّ جمالها فيها حسب أمير الشعراء أحمد شوقي، والتي كان أحد الخلفاء دعا إلى تعلّمها وتعليمها، لأنها: “تثبتُ العقل، وتزيد المروءة”. اللغة التي عدّها المستشرق الألماني “فريتاخ” أغنى لغات العالم، ورأى الفرنسي “إرنست رينان” أنها أغرب ما وقع في تاريخ البشرية، لأنها بدأت فجأة على غاية الكمال، وما مِن طفولة لها ولا شيخوخة.
أجل، يوماً بعد يوم يمعن الوهن مخاله في جسد هذه اللغة، حتى تكاد تترنّح، وتسقط أرضاً، فالشوارع والساحات تزدحم بإعلانات ليس لها بالعربية صلة نسب، وأسماء بعض البرامج في الإعلام المرئي والمسموع شتات عاميةٍ، بل عامّيات، من هنا وهناك، وغير قليل من الإعلاميين لا يكتفي بارتكاب مجزرة، بل مجازر، بحقّ اللغة بين عبارة وأخرى، فحسب، بل، أيضاً، يسرفُ في تأكيد قطيعته معها، من جهة، وفيما يبدو طلاقاً بائناً بينونة كبرى بين كليهما، من جهة ثانية.
إنّ الإعلان، والإعلام، إعلاءٌ غير مباشر من شأن الذائقة اللغوية، وتمكينٌ، غير مباشر أيضاً، للغة كما هي في مظانها وأصولها المعجمية والنحوية. وفي الحالين، الإعلاء والتمكين، تقاوم اللغة حال التصحّر التي تعصف بها، وعوامل الحتّ والتعرية التي تتعرّض لها، ومن ثم تحفظ لنفسها ما تبقّى من النضارة التي كانت عليها.
ومن المؤسف، وربّما من المفجع، أن تُنتهك هذه اللغة ممّن يجب أن يكونوا حُماتها، وحرّاسها، والذائدين عن حياضها، ولا سيّما المعلّمين والمدرّسين الذين بدلاً من تعريفهم تلامذتهم وطلابهم بنحوها وصرفها وآدابها من خلالها، ومن تقديمهم تلك المعرفة على طبقٍ من الفصيح اللغوي، يقدّمونها على صفيح من المنطوق في البيت، والشارع، والسوق. ومن المؤسف أيضاً، بل المفجع، أن يلقي أحدٌ كلمة مكتوبة، فتسيل دماء اللغة من بين شفتيه، وعلى يديه، وأن يتحدث أديب، شاعراً أو روائياً أو..، فيلحن، ويلحن، ثمّ يلحن، حتى تشكو اللغة أمرها إلى الله قائلة: فأيّ ذنبٍ جنيتُ حتى أصير بين يدي هذا العيي الأعجم، فيثخنني بحراب العجز، والضعف، والهوان. ومؤسفٌ، ومفجع، ألا تنجو هذه اللغة من جحيم المهانة في الصحافة المكتوبة، وعلى نحو أشدّ مهانة في الصحافة الثقافية، وإلى الحدّ الذي يحتشد السطر الواحد معه، بل العبارة الواحدة، بغير فساد وإفساد، كأن يبدأ السطر الأول لافتتاحية في مجلة أدبية بالقول: “لعلّ كثير من العرب..”، وكأن لا تميز لكناءُ حبساء بين ما هو واجب الحذف من جائزه.
وبعد، فممّا تروي الأسانيد أنّ رجلاً كان لحنَ بين يدي النبي، فقال لصحابته: “أرشدوا أخاكم فإنّه قد ضلّ”. ضلّ؟ فماذا لو سمع هذه الأيام حديث، بل جزءاً من حديث، مَن يزعم نسبته إلى الأدب؟ ما مِن ريب كان سيقول: أنقذوا أخاكم فقد غرق في بحر من الضلالات.