علـــى قلـــقٍ كــأنّ الرّيـــح تحتـــي
كنتُ في المرحلة الثانويّة، يوم استدعتني إحدى الجهات الوصائيّة المهجوسة بتطهير أدمغة الخليقة من جراثيم الأفكار المغرضة. امتدّتْ يدُ أحد عناصرها إلى درجٍ قريب، مرتفعةً بهدوءٍ مبالغٍ فيه، لتصفعَ ناظريّ بكتاب صغير ذي غلافٍ أحمر،عنوانه “دور العمل في تحويل القرد إلى إنسان” لـ”آنجلز” ثمّ ليسألني صاحبها: أقرأتَ هذا الكتاب؟ أجبته بشيء من البراءة والتّحدّي: مكتبة والديّ تعجّ بأمثاله.
كان زمناً بهيّاً، أناسه يقرؤون بقوّة، ويتلقّفون كلّ جديد بشغفٍ لا يعرف الارتواء. حينها كان الكتاب أجمل هديّة يتداولها العشّاق والقرّاء. زمن انتشار الكتب السوفيتيّة مثل “ما العمل” و”خطوتان إلى الأمام، خطوة إلى الوراء”، والماديّتان “الديالكتيكيّة والتاريخيّة” الّلتان كانتا بمثابة دستور منزّل لأيديولوجيّة تلك المرحلة. ويسألك الرّاسخون في علمهما بتعالٍ واضح: هل قرأتهما؟ فتجيب متلعثماً: نعم، ولكن نتيجة لصعوبتها، ألجأ لتلخيص الأفكار ومحاولة فهمها. حقيقة: لم أقلق كثيراً في كلتا الحالتين، في الأولى لأنّني كنت أحبّ التحدّي وقد وجدتها فرصة لإثبات الذّات. وفي الثانية رأيت أنّه من المعيب وقد غادر الوعي شرفة طفولته ألّا أكون قد قرأتها. ما أريد قوله: أنّني لم أصلح بحياتي كلّها لأكون عضو اً في أخويّة الأفكار الميكانيكيّة الصّنع. كان والدي أكبر محفّزٍ لي لمطالعة كلّ شيء، وخاصة كتب ومجلّات التوجّه الاشتراكي كمجلّتي “الطريق إلى الاشتراكيّة” و”المرأة السوفيتيّة” وكتب ومنشورات دار “رادوغا” ولا أدري لماذا أتذكّر الآن وأنا أعبر حدائق الذاكرة وأشواكها، عناوين أخرى مثل: “تعلّم الإنكليزية بخمسة أيام” أو “أسرع الطرق لمعرفة الله” أو “حوار مع صديقي الملحد” وغيرها. وهكذا كان لابدّ من التّعزيل ونفض الغبار وحرث التربة من جديد. طلّق أبي ماضيه إلى غير رجعة وارتدى عمامته الخفيّة غائباً في ضباب بخّورها، ووجدتُ أنا الولد الضّال طريقي إلى الأدب والنّقد. كان لابدّ من إعادة ترتيب الأولويّات. لم نكن نعرف أنفسنا أبداً، فكيف بمعرفة الآخر؟. ثمّ مع انهيار الأفكار الأفلاطونيّة المدوّي، بدأت بغربلة المكتبة من الكتب الحمراء والصفراء واللّا لون لها. محتفظاً فقط، بكلّ ما يمتّ بصلة لخياراتي الأدبيّة والثّقافيّة، لأكتشف لاحقاً الكثير من الغثّ بينها أيضاً، لتبدأ مرحلة اصطفاء جديدة تمنح الكمّ فرصته ليصبحَ كيفاً مزهراً. وبدأت حجوم كراتين الكتب في البيت بالتّقلّص، بعد كلّ ترحالٍ رجيم. وكذلك لسببٍ محزن آخر هو أنّ مكتبتي الحائطيّة ذات الرّفوف المعدنيّة، انهارت كلّها في الماء الذي غزا البيت من كلّ الجوانب، دون سابق إنذار في يوم كثيف الثّلوج. أقسمُ أنّني سمعتُ صدى أنين الكتب على بعد عشرات الكيلومترات، حيث كنتُ مسافراً آنذاك إلى البلد. وبدأت أحلم، لربّما أملك يوماً ما بيتاً بمكتبةٍ عصيّةٍ على الغرق، أو أستبدل كتبي بأقراص ممغنطة تخفّف العبء الورقي، في زمن العولمة الثقافيّة، أو.. أو.. لا أدري؟!. ولكن أحقاً تُغني المكتبة الالكترونية عن الورقية؟ وعطر الكتب وحبق رائحتها، كيف سنعوضه؟ خصوصاً تلك التي لم تفقدُ بريقها مع الزّمن، بمكانها المحفوظ قرب وسادة نومنا. تحرسُ أرواحنا وتحميها من العطب. أسئلة كثيرة لم أجد لها جواباً شافياً حتى الآن. ولكن ما ترسّخ لديّ هو ضرورة الغربلة الدّائمة، ونزع القشور وتعزيل الكراكيب كلّ فترة، موقناً أنّه الطريق السليم للصّحّة النفسيّة. فإذا لم نتعلّم إعادة رسم خرائط حياتنا ومعارفنا من جديد، والبحث عن مصدر الدهشة والغنى الثّقافي في الكتب كما الحياة، فلا معنى لنضج تجربتنا الوجوديّة والمعرفيّة. يجب أن نرتّب مكتبتنا الداخليّة، والخارجيّة، ونطهّرها من شوائب الكمّ غير المجدي. حينها فقط، ستشفّ أرواحنا وتتعمّق معارفنا جماليّاً كداليةٍ من نبيذ. أهي أفكار ضدّ المكتبة إذن؟!. نعم، وبالتّحديد المكتبة التّقليديّة. يقول الكاتب الإرجنتيني “بورخيس”: “ثمّة عدّة أماكن يمكن أن يتوه فيها المرء، لكن لا يوجد مكان أكثر تعقيداً من مكتبة، بل إنّ الكتاب الواحد يمكن أن يمثّل مكاناً نضيع فيه ونتوه”. هكذا هي المكتبة الحقيقيّة أشبه بـ”متاهة”!. ولذلك أعمد دوماً وبشكلٍ مقصود، لخلخلة وتقويض هشاشة البناء كلّ فترة، وإنّي لأرى بذلك تدعيماً لمداميكه، وإعلاءً لشرفاته لتنغرس أكثر في مديات الدهشة والخلق. نعم، يجب البحث عن المدهش في الأشياء والظّواهر، منقادين تحت سطوته الباذخة إلى منابع الوجود الأولى، فلتتبع حاسة الشمّ المعرفيّة الجديدة دون توانٍ. حين قرأ ماركيز يوماً “المسخ” لـ كافكا أصيب بالصدمة والذهول اللتان غيّرتا مجرى حدسه الأدبي عموماً،البداية التي تقول: (استيقظ غريغور سامسا صباح ذلك اليوم من كوابيسه، ووجد نفسه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة) حفظ الأديب الكبير الدرس جيّداً، لذلك كان يتأنّى في كتابة فصله الأول من كلّ رواية على مدى عامٍ كامل، كما كان يفعل شاعر الحكمة “أبو تمام” في حولياّته. وهاهو شاعرنا الجميل “محمود درويش” في وصفه لشعريّة المتنبي، يلخّص تلك الكثافة الجماليّة للدهشة قائلاً: ( كلّ ما أردت قوله، قاله المتنبي في نصف بيت: “على قلقٍ كأنّ الريح تحتي”.
أوس أحمد أسعد