غســــــيل منشــــــور
على مدار ثلاثين عاما لم يسلم من غسيل جارته التي تقطن في الطابق الخامس، لقد كان لهذه السيدة عادة غريبة في التعامل مع الثياب المغسولة، فهي تنشرها دون عصر ودون إزالة المياه العالقة فيها خوفا منها أن “تتجعلك” الثياب وتبدو كتفاصيل وجهها العتيق التي قاربت السبعين عاما بكل وضوح. وهو بدوره لم يوفر فرصة أن يرمي كلمة هنا أو هناك كلما صادفها على الدرج أو في الجوار لأنها كانت كثيرة العمل والحركة وتقضي كل احتياجات منزلها لوحدها. كانت هي تضحك من قلبها وكأنها تقول والله لن أغير عادتي هذه طالما أن يدي تستطيعان العمل والغسل والنشر.
لقد توقف مرارا عند هذه الكلمات التي خرجت من لسانها متعمدة القوة ورفض الاستسلام لتواريخ متتالية تنذر بالشيخوخة والوهن، التمسك بالعادات والقناعات ولو لم تكن مجدية لمجرد أنها نقلت بالوراثة ويجب الإمساك بها قبل أن تفلت وتضيع وسط الزحام الجديد، العِند الذي يولد طاقة محركة للعمل والاستمرار كالكهرباء مثلا قبل أن يقل حيلها، كل هذا دار في رأسه, قد يبدو الأمر مبالغا به لأنه مجرد كلام لامرأة قد تبدو عادية جدا لكنها لم تكن كذلك. لقد تمازج في عقله مفهوم الغسيل والنشر المتعلق بالثياب مع أمور أخرى ووجد أنها في النهاية مرتبطة ببعضها ولو من باب المقاربة. الفيس بوك مثلا يشبه آلة الغسيل، تضع فيه ما يحلو لك، تغسله بحسب الموقف والحالة النفسية أو الاجتماعية ومن ثم تنشره على حبال زرقاء تتمرجح على هواها لعلها تغوي عددا أكبر من الافتراضيين.
وإذا كانت المنشورات كغسيل الجارة مبلل ينقط على رؤوس المارين بصفحتك, ستتعرض للمضايقة وسماع القيل والقال وحتى إلغاء الصداقة من أساسها. المقاربة نفسها مع دار النشر الذي لا ينشر إلا الكتاب الذي يوافق سياسته واتجاهه وبالطبع الذي يدر عليه مبيعات أو علاقات وأمورا أخرى، بغض النظر أحيانا عن تاريخ الكاتب ناصع البياض، حتى الأخبار تُنقل إلينا ببث معصور على مزاج أصحابها وتبعا لما يقتضيه الوضع والتطورات وأنت المتفرّج الوحيد تنتظر أن يجف قليلا دون أن تتدخل غيوم مارقة بالصدفة المقصودة وتبلله من جديد معلنة شتاء في غير أوانه.
أما المثل القديم الذي يقول “لا تنشر غسيلك الوسخ أمام الآخرين” فالعبرة كبيرة لمن يريد أن يأخذ بها.. لقد كان الغسيل يعطي صورة عن سكان البيت ونظافتهم وكذا الأمر مع الانطباع الأول والعنوان الأول وكل ما يقع تحت أنظارنا للمرة الأولى. إنها وصايا الجدّات الطيبات لأيام لا تبشر بالخير بعد أن سُرق الغسيل كله من على السطح المحروس.
على كل حال، كل واحد حر بغسيله، فلينشره على ذوقه. لن ألوم الجارة بعد اليوم إن لم تعصره جيدا، وإن أصابتني “طرطوشة” منها سأتقبلها بروح رياضية. الحمد لله أننا مازلنا نستطيع نشر غسيلنا بعد انقطاع حبال الود مع الكثير من الجيران وبعد كل العواصف التي ألمّت بنا.
نـدى محمـود القيـم