الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

قصّ.. لصق

د. نضال الصالح

في “الصحاح” أنّ “القمْشَ” جمعُ الشيء مِن هنا وهناك، وكذلك التقميشُ. وفي “لسان العرب” أنّ “القَمْشَ” الرديءُ من كلّ شيء، أو جمعُ القُماش، وهو ما كانَ على وجه الأرض من فُتات الأشياء، حتى يُقالَ لرُذالة الناس قُماش، وأنّ قُماشَ كلّ شيء، وقُماشته، فُتاتُه. وفي “تاج العروس” أنّ من توريات العرب: “قمْشُ الريحِ الترابَ”، وأنّ “القمّاشَ” بائعُ المتاع. وممّا أثُرَ عن الإمام عليّ كرّم الله وجهه قوله: “إنّ أبغضَ الناس إلى الله رجلٌ قَمَشَ عِلماً”.

وفي المصطلح “التقميشُ” جمعَ المعلومات، ثمّ ترتيبها. ومن حكم العرب في هذا المجال قولها: “إذا كتبتَ فقمّشْ”، أي ابحث، واستقصِ، وإلحاقها بذلك قولها: “وإذا حدّثتَ ففتّشْ”، ثمّ تفريقها، فيما بعدُ، بين مترادفين إيقاعاً ومختلفين دلالة، أي بين التقميش والتقبيش الذي يعني القيام بعمل لا يُحسنُ صاحبه القيامَ به. ومن بديع لهجة حلب لفظُ “التقبيش” أي التلويث، وهي نقيض ملفوظها في لهجة دمشق، حيث تعني الدلال والحبّ في الدعاء للأطفال خاصّة.

وممّا يلحقُ بالتقميش اصطلاحاً لفظُ “الكُنّاش” الذي يُقصدُ به الاختيارات من كتب الآخرين، أو “الكشكول”. وفي مادة “كنش” في قاموس الفيروزآبادي أنّ “الكُنّاشات”: الأصولُ التي تتشعّبُ منها الفروعُ. وذهبَ الخفاجيّ في “شفاء الغليل” إلى أنَّ “الكُنّاش” لفظٌ سريانيٌّ معرّبٌ معناه المجموعة أو التذكرة، وأنّ هذا اللفظَ وقعَ كثيراً في كلام الحكماء، وسمّوا به كتبهم.

وفي أيّامنا “القمْشُ” و”التقميشُ” ضروبٌ، ومنه ما تغصُّ به رفوفُ المكتبات في الجامعاتِ العربية من الرسائل والأطروحات التي ليس من فضل لقمّاشها سوى القمش والتقميش، أي الجمع من هنا وهناك. ومنه ما يحتشدُ في المكتبة العربية ممّا ينتسبُ إلى التوليف لا التأليف. ومنه ما تُتخمُ به الصحفُ والمجلات والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ممّا يمكن الاصطلاح عليه بـ”الخُردة” الكلامية، ومنه ما يتناسلُ في الحياة الثقافية العربية زيفاً باسم الندوات، والمهرجانات، والمؤتمرات، التي لا يتجاوز الكثير منها سوى كونه حشداً لقمّاش من هنا وقمّاشة من هناك.

وإذا كان من معاني التقميش قديماً التخيّرُ والاصطفاءُ، فإنّ من معانيه راهناً القصُّ واللصقُ، والنهبُ، والنهشُ، والهبْشُ. وإذا كانَ من دلالاته، قديماً أيضاً، سعةُ المعرفة، والحصافةُ في الجمع والترتيب، والذائقةُ العالية في التنضيد والتبويب، فإنّ من دلالاته راهناً الفقرُ المعرفيُّ، والعيُّ، واللجلجةُ، والثأثأةُ، والتهتهةُ، وقبلَ ذلك وبعده السطو على جهود الآخرين، ونسبتها إلى الذات، وإيهام القارئ بالنباهة، والفصاحة، والإبداع.

لقد احتشدتِ الحياةُ العربيةُ، منذ سنوات ليست قليلةً، وفي غير مجال، ولاسيّما الكتابة، بالقمّاشين، القصّاصين واللصّاقين، من كلّ صنفٍ، ومن دون حياء، أو خجل، أو استتار عن معصية الاستباحة لمنجَز الآخر، كأنْ يمضي كَتَبْجيّ إلى مقدّمة كتاب، فيقمّشها كما يشاء، ثمّ ينشر ما قمّشَ بوصفه من بنات أفكاره، أو من جهده نفسه، أو من بدائعه، أو عنديّاته التي سرعان ما تفضحها فعاليات التقميش اضطراباً، ولعثمةً، وحبسةً، وإبدالاً، وحذفاً، وإضافةً، وسوى ذلك ممّا ينطوي تحت عباءة أمراض الكلام.