أديسون الغبي بفضل أمّه أصبح عبقريّاً
من المؤسف بشدّة أن لا تُعرَف قيمة الكثير من المبدعين وما قدّموه في حياتهم من فنون ومعارف غنيّة للإنسانيّة، فلم يستطيعوا قطف ثمار عملهم لا مادّيّاً ولا معنويّاً، ولا عاشوا حياة كريمة تضمن لهم استمراريّة العطاء قبل توديعهم لهذا العالم، ذاهبين في رحلة اللّاعودة نحو المجهول. وإذْ بها شهرتُهم تطال الآفاق بعد مماتهم، وبذلك يُظلمون مرّتين. وكأنّ مقولة “لا كرامة لنبيّ في قومه” ستظّلّ هي السّمة الملاصقة للواقع والتاريخ، وكأنّي بلسان المبدع عبر العصور المختلفة،الذي لم تعرف ثقافة الجهل والتّجهيل تقدير قيمته، يردّد مكلوماً، ما قاله الشّاعر العربي يوماً: “سيذكرني قومي إذا جدّ جِدّهُم/ وفي الليلة الظّلماء يُفتقدُ البدرُ”.
الفنّان الهولندي “فنسنت فان كوخ” المولود عام 1853 -1890 الذي يعد من أهمّ الفنانين الانطباعيّين وأحد الشخصيّات الأكثر تأثيراً وإبداعاً في تاريخ الفنّ، ظلّ فقيراً وغير معروف طيلة حياته ولم يتمكّن من بيع إلّا لوحةً واحدة. أمّا اليوم فإنّ كلّ لوحة من لوحاته تقدّر بملايين الدولارات، وثمّة مفارقات حادّة أخرى في حياة بعض المشاهير عكستها غرائبيّةُ أطوارهم وممارساتُهم الحياتيّة، كما هو شأن شخصيّة الإمبراطور الروماني “نيرون” الذي حكم روما عام “64” م وهو في سن الخامسة عشرة، والذي اجتمعتْ بشخصيّته نماذج متناقضة لشخصيّاتٍ عديدة، أكثرها حدّة النّموذج السّادي المعروف بتلذّذه وتفنّنه بتعذيب الآخرين، فقد وجّهتْ لـ “نيرون” تُهمٌ عديدة: منها اضطّهاد المسيحيّين، وقتل والدته وزوجته وأخيه ومعلمه. وقِيل أيضاً، بأنّه أحرق عاصمته روما، وهو جالس في برج يعزف على القيثارة، ويقرأ أشعار هوميروس في الإلياذة بانتشاء، متمتّعاً بمنظر المدينة المحترق. على الأقل هذا ما أوصلته إلى مسامعنا السردية التاريخيّة المعروفة عن هذه الشخصيّة الإشكاليّة التي توضّح روايةٍ أخرى أنّها كانت تتمتّع بحساسيّة فنّان متعدّد المواهب في التّمثيل والرسم والموسيقا، لكن ثمّة من شكّكَ بهذه الرواية ناسباً إيّاها إلى قبائل الغال. ما رواه المؤرّخ الروماني “سويتون” عن حاكم روما، يلقي بعض الضّوء على هذه المتناقضات، حيث قال بأنّ “نيرون” حين أصبح إمبراطوراً لروما كان حلمه أن يغنّي أمام الجمهور على مسرح نابولي، لكن صدف أن حدثتْ هزّة أرضيّة أثناء غنائه، فغادر أغلب الجمهور المكان، بينما تابع هو الغناء. وفي حفلةٍ أخرى بادر إلى تلافي الثّغرات السابقة، بأن أمر بسدّ منافذ المسرح، كي لا يتمكّن أحد من مغادرة القاعة قبل انتهاء وصلته الغنائيّة. وثمّة مشاهير آخرون احتفظ لهم التاريخ بأنقى المزايا، رغم اعتلائهم أعلى منصّات الشّهرة في حياتهم، فهم لم يفقدوا إنسانيّتهم ولم يتناسوا منبتهم الطبقي المتواضع، بانتمائهم إلى الشرائح الاجتماعيّة الفقيرة. إذ يُروى عن أشهر كوميدي في تاريخ السينما العالميّة “شارلي شابلن”: بأنّه عندما كان صغيراً ذهب مع والده لحضور عرض في السيرك، وكان صفّ الانتظار طويلاً أثناء قطع التّذاكر، فرأى عائلة من ستة أشخاص وأب وأم يبدو الفقر واضحاً على ملامحهم وثيابهم رغم نظافتها، ينتظرون دورهم. كان الأولاد فرحين وهم يتحدّثون عن السّيرك. وما إن اقترب الوالد من نافذة البيع ليسأل عن سعر البطاقة حتى تراجع والحرج يفيض من وجهه. فما كان من أبي إلّا وأسقط من جيبه عشرين دولاراً والتقطها، ثم وضع يده على كتف الرجل قائلاً: عفواً لقد سقطتْ منك نقودُك! فنظر الرجل إلى أبي نظرة امتنانٍ مليئة بالشكر والعرفان قائلاً والدموع تطفر من عينيه شكراً لك يا سيّدي!. وحين دخلت العائلة لحضور العرض، سحبني أبي من الصّفّ متراجعاً،لأنّه لم يكن يملك سوى العشرين دولاراً التي أعطاها للرجل. ومنذ ذلك الوقت وأنا فخور بأبي. وكان هذا الموقف أجمل عرضٍ شاهدته في حياتي، أجمل بكثير حتى من عرض السيرك الذي لم أشاهده. ولأشهر المخترعين في تاريخ العلم “أديسون” قصّة أخرى بالغة التأثير يقول فيها: ذات يوم عدتُ إلى البيت ولم أكن أعرف القراءة، وقلتُ لأمي: هذه رسالة من إدارة المدرسة”. قرأتْ أمي الرسالة وبرقت الدموع في عينيها ولم أكن أعرف حينها لماذا هي على هذه الحالة، وبدأتْ تقرأ لي نصّ الرسالة: “ابنكِ عبقريّ والمدرسة صغيرة عليه، وعلى قدراته، عليك أن تعلّميه في البيت” ومرت السّنون وتوفّيتْ أمي، وكان صيتُ اختراعاتي قد عمّ العالم، وبينما أنا في أحد الأيّام أفتّش في خزانة والدتي وجدتُ رسالة عتيقة مصفرّة تقول: “ابنك غبيٌّ جدّاً، ومن صباح غد لن ندخله المدرسة” بكيتُ حينها طويلاً، ثمّ كتبتُ في يومياتي: “كان أديسون طفلاً غبيّاً، لكنه بفضل أمّه الرائعة صار عبقريّاً”.
تحيّة لكلّ الثقافات والمجتمعات التي تقدّر قيمة الإبداع والنّبوغ، وللمبدعين برسالتهم الإنسانيّة الراقية، ولكلّ الأهالي الذين اكتشفوا مبكراً طاقات أبنائهم وميولهم في سنّ مبكرة، ورفدوها بكلّ المحفّزات المعنويّة والماديّة، التي ساهمت بترسيخ خطواتهم على السكة الحقيقيّة للحياة.
أوس أحمد أسعد