أمريكا.. من الهيبة الدولية إلى الغلّة المالية
الدكتور سليم بركات
يزداد اهتمام شعوب العالم بالتوتر المتصاعد في منطقة الخليج، ولاسيما في التصعيد الأخير الذي جرى إثر إسقاط طائرة أمريكية من دون طيار كانت قد اخترقت المجال الجوي الإيراني، وربما أدّت نتائج هذا الإسقاط إلى أن إيران قد ربحت الجولة الأولى من الحرب قبل أن تبدأ، لا لسبب إلا لسبب واحد وهو تراجع ترامب أمام صلابة الموقف الإيراني، وعدم قدرته على تحمّل مثل هذه الحرب أو الاستمرار فيها، لأن المواجهة العسكرية ستكون كارثية وأثمانها باهظة، مما خفّف من حالة التوتر بعد تراجع ترامب مكرهاً أخاك لا بطل عن قيامها، لأنها ستجر إلى حروب قد لا تستطيع أمريكا أو غيرها تحمّلها، الأمر الذي دفع ترامب إلى التركيز مجدداً على مواصلة الحصار الاقتصادي المتصاعد، والذي سيكون من وجهة نظر إدارته أشدّ فتكاً وبالتالي ستكون التكاليف أقل، وهذا ما يناسب عقلية ترامب وحده وليس حلفاؤه وعلى رأسهم السعودية والكيان الصهيوني.
السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل من أسباب مقنعة للاتجاه بالمنطقة نحو الحرب التي تهدّد فيها أمريكا، وبالتالي هل ستعلن أمريكا هذه الحرب على إيران عاجلاً أم آجلاً؟. للإجابة عن هذا السؤال يوجد روايتان، الأولى ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية تقول: إن على إيران أن تحسّن من سلوكها تجاه دول المنطقة، وأن تبتعد عن النوايا السيئة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وألا تتدخل في شؤون المنطقة بما يتعارض مع المصالح الأمريكية، أو يستهدف المواقع الأمريكية المتواجدة في المنطقة، وعلى الرغم من أن هذا الادعاء الأمريكي غير مقنع، وحقائقه نادرة، إلا من وجهة النظر الأمريكية ومن يغرد في سربها. أما الثانية ومن وجهة النظر الإيرانية فتقول بتحميل الإدارة الأمريكية مسؤولية أي تصعيد يتجه بالمنطقة نحو الحرب، ولاسيما بعد أن ألغت أمريكا اتفاقها مع إيران فيما يخصّ الملف النووي الإيراني أو اتفاق 5+1، وإيران المتمسكة في هذه الرواية تنتقد طريقة ترامب الغوغائية في التعامل معها، لا بل تحمله المسؤولية فيما جرى ويجري بعد هذا الإلغاء الذي ضرب عرض الحائط بكل مقاييس الشرعية الدولية والأخلاقية، وطبقاً لهذه الرواية فإن صقور الحرب على إيران في الإدارة الأمريكية أمثال “جون بولتن” و”مايك بومبيو” يرون في هذه النظرية الإيرانية فرصة سانحة لإحداث تغيير في النظام الإيراني إذا لم تفلح الضغوط الاقتصادية الممارسة على إيران، ولهذا يفضّلون العمل العسكري ويعدونه غير مستبعد في النهاية على إيران. هاتان الروايتان تعكسان تفسيرات مختلفة لحقيقة الأمور المبرمجة التي تبرز حقائق معينة وتغفل أخرى من قبل كل من الطرفين، إلا أن الروايتين تشيران إلى خطورة هذا التصعيد، حيث تشير إلى أن حرباً بين أمريكا وإيران قد تحدث بمحض المصادفة بدلاً من أن تكون مرتبة ومبرمجة.
الحقيقة تقول إن منطقة الشرق الأوسط تشهد في هذه المرحلة تصعيداً غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا عبر حرب الخليج الأولى والثانية، تصعيد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا فيه إن الأمر متوقف على نتيجة الجدال الحادث داخل إدارة ترامب، وعلى تقييم إيران لما يحدث هناك على الرغم من أن ترامب نفسه يعرف أكثر من غيره مدى الانقسام الحقيقي الأمريكي الحقيقي حول الحرب على إيران، وإذا كان يظهر عدم حماسه للحرب كما يدّعي فإنه قد يلجأ إليها إذا ما تعرّضت القوات الأمريكية في المنطقة إلى أمر ما من وجهة نظره، الأمر الذي جعل المنظور الإيراني مختلفاً عن المنظور الترامبي، منظور يمكّن إيران من المراهنة على العلاقة بين ترامب وإدارته، ولاسيما صقور هذه الإدارة وغيرهم من المقتنعين بشنّ الحرب على إيران، مراهنة قد تؤدي إلى كشف المخططات الأمريكية الصهيونية الرجعية المعادية لإيران وباقي محور المقاومة، وربما أدت أيضاً إلى سقوط ترامب وإدارته نتيجة تصاعد الخلافات بين الطرفين وعلى المستوى السياسي الأمريكي برمته.
تشير التقارير الأمنيّة والإعلامية إلى أن الوضع في المنطقة على قدر عالٍ من الخطورة، إنه على فوهة بركان نتيجة المواقف الإسرائيلية السعودية ومن يغرد في سربها من حلفاء ترامب ممن أعلنوا أنهم يتبنون جميعاً الموقف الأمريكي المرحب بالحرب، بينما شركاء الإدارة الأمريكية في أوروبا يشعرون بعدم الارتياح إزاء ما ستؤول إليه الأمور فيما لو اندلعت هذه الحرب، وإلى درجة دعت من خلالها كلّ من ألمانيا وإسبانيا وهولندا إلى اتخاذ خطوات من شأنها وقف كل نشاط عسكري مشترك مع الأمريكيين في المنطقة، لأن الوقت غير مناسب لأي حرب فيها، زد على ذلك أن المقارنة الأمريكية بين غزو إيران اليوم وبين غزو العراق 2003 لن تكون مفيدة، فإيران اليوم مثال مختلف عما كان فيه العراق في عام 2003، وفكرة غزوها ليست من الأمور المريحة، لأن التعامل مع هذا الغزو سيشعل المنطقة بأسرها بغض النظر عن القدرة الإيرانية في مواجهة هذا الغزو براً وبحراً وجواً، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الغزو الأمريكي سيبقى مقتصراً كما هو معتاد على القدرات الجوية والبحرية، لكنه فيما يخصّ القدرات البرية سيبقى اعتماده المفرط على حلفائه الإقليميين ممن لديهم مخططاتهم الخاصة، ويهرولون لتنفيذها، وفوق كل ذلك الحالة الشعورية البشرية المحلية والعالمية تجاه تصرفات ترامب الحمقاء والهوجاء أكان ذلك فيما يخصّ العلاقات الدولية، أم كان ذلك فيما يخصّ تصاعد التوترات مع شركاء قدامى في حلف الناتو. والأهم من كل هذا هو عجز ترامب عن حسم القرار وتحديد الأولوية فيما يخصّ المصالح الأمريكية الحقيقية على صعيد الداخل الأمريكي أو خارجه، ولاسيما فيما يخصّ التنافس الأمريكي من جهة والروسي الصيني من جهة أخرى على صعيد العالم.
السؤال الذي يطرح نفسه في صميم هذا الواقع المحلي والعالمي هو: هل تستحق إيران هذا التصعيد الأمريكي في مواجهتها، وماذا فعلت قياساً بما تفعله إدارة ترامب على مستوى المعمورة، ومن ثمّ هل انسحبت إيران من أي اتفاقية دولية، وهل ضربت عرض الحائط بقوانين الشرعية الدولية؟ وبالتالي هل لفّقت إيران من الأكاذيب ما يضرّ بمصالح أي دولة على مستوى العالم، أم أن الولايات المتحدة الأمريكية هي من فعل كل هذا والحبل على الجرار؟، ومن ثمّ من يصدّق على مستوى المعمورة أن إيران ستعتدي على أمريكا التي لم تترك إدارة ترامب شعباً إلا واعتدت عليه أو جوعته، أو ابتزته على الأقل؟. والأهم من ذلك كله: هل يستحق الموقف الإيراني الملتزم مع شعبه هذا الموقف الأمريكي العدواني الهمجي المصلحي الخبيث، والمدمّر لكل الأخلاق والقيم الإنسانية؟. ستأتي الإجابة من كل عقلاء العالم الاستراتيجيين بالرفض، كما أن العديد منهم سيرفضون فكرة الحرب على إيران أو الإجراءات الأمريكية اللا إنسانية الانتقامية منها.
بقي أن نقول: قد تبدأ أمريكا هذه الحرب على إيران لكنها لن تنهيها لمصلحتها ولا لمصلحة حلفائها في المنطقة وفي الطليعة إسرائيل والسعودية، وعلى ترامب أن يضع في سلم أولوياته قدرة إيران على المواجهة قبل أن يبدأ هذه الحرب لا لسبب إلا لسبب واحد وهو أن إيران لن تكون في المواجهة وحدها، بل إيران وباقي محور المقاومة، وربما روسيا والصين، وكل أحرار العالم ممن يرفضون البلطجة الأمريكية ويستنكرون السلوك الأمريكي اللا أخلاقي المدمّر للقيم البشرية. إن المصالح الأمريكية في المنطقة وعلى مستوى العالم لا يخدمها الانحياز إلى أطراف بعينها، وإنما يخدمها التصرف الأمريكي في إطار الدولة العظمى، والذي يقوم على تركيز مبدأ العدالة والمساواة تجاه دول وشعوب العالم، وليس التركيز على ما يهمّ إسرائيل والسعودية ومن يدور في فلكهما، نقول ذلك ونحن لا نرغب لدولة عظمى أن تقف محتارة بين ضياع هيبتها وبين الغلة المالية الاستفزازية اللا متوازنة التي يتبناها ترامب، والتي نهبت العالم وعلى رأسه الخليج العربي واستعمرته. وإذا كان لابد من هذه الحرب التي يسعى إليها ترامب ومن يدور في فلكه، فلابد من أن يعلم ترامب أن إيران وحلفاءها قد استعدوا لهذه الحرب، ولأنه أدرك ذلك فقد اختار اللحظات الأخيرة كما يدّعي لإلغاء عدوانه على إيران، لكنه قد يتراجع عن قراره هذا ويغامر من جديد في تهديد آخر قد يكسر فيه عنجهيته وعنجهية حلفائه في المنطقة وفي الطليعة عنجهية الكيان الصهيوني.