إسطنبول وعتبة التغيير
علاء العطار
وصل أردوغان من الغطرسة والتكبّر ما وصل، حتى ظنّ أنه قيصر لا تردّ له كلمة ولا يجرؤ أحد على الوقوف في وجهه، وبات كلفاً بما حقّقه ويرفع أنفه مغروراً بذلك، ومشكلته أن أصابه العمى، فلا يعترف بوجود فكر جديد وقوة جديدة قادرة على تحديه وإسقاطه، لذا لم يعد يشعر بحاجة للسعي وراء هدف جديد، أو خلف الغاية التي كان يرومها منذ أن بدأ مسيرته، وبات يتربع في برجه العاجي غافلاً عما يجري من تحوّل في المجتمع التركي.
وهذا حزب العدالة والتنمية قد مُني بهزيمة مدوية بعد خسارة مرشحه في انتخابات إسطنبول للمرة الثانية، وكانت هذه الصفعة أقوى من سابقتها، إذ ازداد عدد الناخبين الذين انتخبوا مرشح الحزب المعارض، وسبّب ذلك إحراجاً كبيراً لأردوغان كونه مَنْ شكّك بنتائج الانتخابات وطالب بإعادتها، كما أنه هو الذي قال “من يفوز بإسطنبول يفوز بتركيا بأكملها”، نظراً لأن إسطنبول تشكل 16 مليوناً من عدد سكان تركيا البالغ 81 مليوناً، ناهيك عن ذكر خسارته في أنقرة وأزمير في الانتخابات البلدية.
وسينشغل أردوغان بمحاولة احتواء تداعيات الهزيمة الانتخابية، قريبة وبعيدة المدى، التي ستشكل عبئاً كبيراً على كاهله، وخاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتعثّر، وستمتد هذه التداعيات لتطال الانتخابات الرئاسية بعد حوالي أربع سنوات.
كما يواجه أردوغان تحديين كبيرين آخرين، يتمثّل أحدهما بعبد الله غول الذي يقود حركة داخل حزب العدالة والتنمية لتشكيل حزب منفصل، والآخر بإخلال استقرار تحالفه مع حزب الحركة الوطنية الذي يشكل قاعدة يعتمد عليها في الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وهذا ما أشار إليه العديد من المحللين بقولهم إن هذه الخسارة أظهرت مشكلات عميقة داخل معسكره، الأمر الذي قد يكلفه خسارة الرئاسة.
وتشير نتائج الانتخابات هذه إلى أن درجة التحول الاجتماعي والتحول في موازين القوى السياسية وصلت مبلغاً كبيراً منذ فشل انقلاب عام 2016، والمجتمع التركي يسير مبتعداً عن حزب العدالة والتنمية ويدنو من المعارضة بصورة أكبر.
نشأ هذا التحوّل بفعل عدة عوامل، من ضمنها دكتاتورية أردوغان، ولغة الكراهية، والتدخل العسكري في سورية، وترويع الصحافيين، ومنح صلاحيات جديدة للرئيس، والاعتقالات التعسفية عقب انقلاب عام 2016، والانقطاع عن الشعب والغطرسة، ومعاداة المرأة، والاستياء من الركود الاقتصادي الناشئ عن التضخم وانهيار العملة التركية، وكان آخرها السعي إلى إعادة التصويت الذي تسبّب بسخط شعبي كبير وإحساس بالظلم.
ودون ريب، لا يقدّم فوز أكرم إمام أوغلو في السياسة التركية إلا القليل على المدى المنظور، لكنه يشكل بداية مرحلة جديدة تنبئ بتغيير هائل على المدى الطويل، ولاسيما أن إمام أوغلو نجح في توحيد صفوف المعارضة التركية المتشظية، والتي تضمّ أحزاباً مثل حزب الشعب الجمهوري، وحزب الخير العلماني، وحزب الشعب الديمقراطي وغيرها، عدا عن أن المعارضة تسيطر الآن على المدن التي تتحكم بسبعين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا.
إن طلب إعادة الانتخابات بحدّ ذاته يشير إلى انتشار نوع من القلق أو “البارانويا” في أروقة الحزب الحاكم، وخاصة أردوغان الذي تبدّت عليه ملامح انعدام الثقة والذعر عند ادعائه بوجود مخالفات، وأمست سيادته المطلقة على الحزب والدولة موضع تساؤل، أو ربما أن الضربة الموجعة التي تلقاها أعادت له صوابه ليجد نفسه يسير على الحافة وآيلاً إلى السقوط عنها.
والآن ينسحب أردوغان إلى مضجعه ليحيك ويخطّط المؤامرات للنيل من خصمه، لكنه يبدو أَلِهاً لا يعرف من أين يبدأ، وربما يشعر بأنه هو من مهّد الطريق أمام خصومه بتصرفاته الرعناء وعنجهيته السياسية الشديدة، فتضاءلت شعبيته وارتفعت شعبية خصمه بصورة مطّردة، ما شكل معضلة أمامه يصعب حلّها، إذ كانت إسطنبول عتبة انطلاقه نحو السلطة، لكنها قد تشكل في ضوء نتائج الانتخابات تلك عتبة لصعود خصمه السياسي إلى كرسي الرئاسة.
والحقيقة أن طريق المعارضة إلى السلطة طويل نظراً لأن حزب العدالة والتنمية لا يزال يحتفظ بشعبية كبيرة على مستوى البلاد، هذا إن غيّر في سياستيه الداخلية والخارجية وعمل بشكل حثيث على رأب التصدعات الداخلية بإعادة هيكلة الحزب، وإلا فإن طريق المعارضة قصير لا تشوبه أية عقبات.