الفـــــنُّ وعـــــيٌ تكاملــــي
عندما توقف أرنست فيشر حائراً يحاول الإجابة عن “ضرورة الفن” لم يستطع أن يفعل ذلك, فلم يحدث أن خلت الحياة الإنسانية على طول حضارتها المتعاقبة من لمسة الفن, وبالتالي فإن تعقيب د . سليمان العسكري في مقالته “رحلة اللون والضوء” في غاية الفطنة, لا سيما حين يكون البوح وعياً إخبارياً تلقائياً: “.. نحن لا تعرف الأثر الذي يتركه عدم وجوده..” أي الفن.
إن هذا النشاط الإنساني القائم على ثنائية الإبداع والخيال, سواء أكان تعبيراً بوساطة كلمة هي الخلية الأولى في التعبير, والخبرة الواعية في الإدراك, والسلاح الأمضى في قراع العقول, أم بوساطة اللون عبر أطيافه كمرتسمات تدرُّجِ “قوس قزح” أم بوساطة نغمة تتأرجح بين قرار وجواب فتتراءى شدواً يهزُّ نياط القلب, أو يصمي الفؤاد, وقد هزه وجد الطرب ما بين دمعة وابتسامة، فتكاملت روافد الإبداع على ثلاث الأثافي جمراتٍ تتلظى, أقانيمُها كلمةٌ, ولون, ولحنٌ لاوعه صوت أداء شجي عبر مطالع الكلمات, وشرفات المعاني اللاهبة صدى لمضامين من وعي الدلالات, وغنى التجارب, ووقع اللهفات في الأنفس التي ذوَّبها الحنين إلى حيث الديار, والشوق المضرم إلى حيث الأحبابُ في رحابهم يستوطن القمر.
هو الفن حكاية إبداع, وإعادة صوغ لخبرات تراكمية عمّر مداميكها مَنِ انطوى فيه العالم الأكبر “الإنسان” ضمن سردية وجوده ضيفاً يخبُّ في دروب الأعمار, ويغذّ السير في فجاج العصور الراحلة على امتدادها في جنبات الحياة ليتماوج الفن صدى في مكنونات أنواعه مغامراً يصوغ دنيا من حكايات وأساطيرَ وأغانٍ و”سيمفونيات” ولوحات من رسم تشكيلي, ونبرات جسد هي انعكاسات لواعج أحاسيسَ ومشاعرَ عبر معطى الفن الأول، ولا سيما الباليه, إذ اجتهادُ الحركات هي قطافُ نظراتٍ تعي وفرة المخزون المعرفي جمالياً لمعنى تكاملية الإبداع والفن وفق شمولية الحرف واللون والموسيقا والأداء.
هذا الأداء في خصوصية “الغناء” هو نشيد غنائية الوجدان الشفيف المتوَّج بالرهافة, والساكن في محارات التوق مناراتٍ من تأملات, ومطارحَ كثيرة من أماكن وذكريات, وعرائش من أحاسيس مخمورة في خوابي العمر, وحفافي تباريح الهوى, ومنطوق السَّهر على شفاهٍ واعياتٍ لمعنى القول في سُكنى الجمال.
هو، الأداء الحامل الموضوعي ليقظة كل موضوع وفق تماهٍ لافت من نور ونار, هو هكذا في صوت “فيروز” لكأنه ابتسامة الصبح على شفاه أكمام الورد, أو براءة جوقة من عصافير على وارفات شجر، تغريدُها: “صباح الفل” على ثغر قامة مديدة, أو هيفاء في كروم من كَرَمٍ لكأنه الشلال الدافق من فيض السجايا والشمائل, أو كما جاء قي كتاب د .أسعد علي “فن الحياة.. فن الكتابة”: صوت فيروز عندما تغني يحملني إلى أعراس الحياة فأركض مع الموال إلى آخر الدنيا، كأني أشهد ميلاد الزمن على “نبع الهوى” فأتعلق بخيط الأمل, وأرتفع على أرجوحة الشروق حتى أبلغ “نعميات الله” فأرى اليد الخفية التي تعزف على صخرة “المخلوق المُكَرَّم” أنغامَ الصوت المرموز, فأشاهد جزر النور..” ص261.
ألا ما أجمل القصائد التي صدحت بها، ولكثيرٍ من الشعراء! وما قصيدةُ “خالقة” إلا تناغمُ أضواء لثريا من لهب وضّاّء:
من نعمياتك لي ألف منوَّعةٌ وكلُّ واحدةٍ دنيا من النور
أخادع النوم إشفاقاً على حلم حانٍ على الشفة اللمياء مخمور
إذ كيف يتوه، وقد أرشده إلى سناه حنينُ النور للنور مجامرَ من عبقرية إبداع ومبدع حيث “بدوي الجبل”؟!
هو، هذا الرافل بعبق فصيح القول, وجمل الشعر الأخاذ وببريق إنساني باهر النقاء مضموناً, وغِنى السمو تمثلاً عبر أداءٍ مداهُ الذوق الرهيف
أقول لطفلتــي/ إذا الليل بـــردْ/ وصمتُ الربى/ رُبًى لا تُحــــدْ
تعالي نصلـي/ فأنتِ صغيـــرة/ وإن الصــغار/ صلاتهم لا تـردْ
هو هذا الدفء الإنساني منذ نعومة الأظفار كينونة انتماء متجذرة، فهي التي في (عيون من أهوى سنونو, وفي الجبل البعيد حكايةُ حبٍّ وتحسُّر, وفي جبل الشيخ بطولاتٌ وأبطال, وفي الشام لحظُ شآميةٍ وتدفاقُ بردى, وعشقٌ لدمشقَ بين أنفاس الحياة جيلاً فجيلاً:
أنزلت حبك في آهي فشددها طربت آهاً فكنت المجد في طربي
وعلى مطلول بيارق الصوت المذهَّب بعطر اللفظ, وجوهر الكلمات التي بريقُ معانيها أغلى من سبائك ذهب, وأكثر نضارة وبريقاً:
وصمودُنا وقوافلُ الأبطال مَنْ ضحُّوا وراحوا/ يا شام ُيا بوابة التاريخ تحرسك الرماح
هو الفن يقظة العلا في شامخات الدهور, ونفحات السحر في مدارات النجوم, وأغنيات العزِّ في مكارم البشر, ومكرمات التاريخ:
أهلكِ التاريخُ في فضلهم ذكرهم في عروة الدهر وسام
شآم أهلوك إذا همُ على نُوَبٍ قلبي على نُوَبِ
هي ترانيم عبقريات “سعيد عقل” في شآميات, ومساحات من دهش الصوت أداءً مخملياً يختزن عمق الأحاسيس والمعاني, والبراعة في ألمعية الصوغ التعبيري لدرر الكلام عبر لوحاتٍ ومقطعات مزركشة يعتز الجمال برقي إبداعها قصائدَ ومقطعاتٍ ومطولات. يحمل ذلك صوتها لكأنه سهلٌ غمام, وهندسة من لون ومشاعر وكلام ومرايا لشذرات من ضوء.. حنجرةٌ مصبوغة بعسل اللوعة “يا بلادي يا موجعي! يا بلادي..”!.
هكذا! هو الفن، وعيٌ تكاملي يرسم روعة التفاعل الخلاق بين المرء وما لديه, وغيره وما عنده فيطيب القول, أحاديث تبقى، والفتى غيرُ مخلَّد.. لكنه الحاضر ببصمات ما رقّش مداده على قراطيس الإبداع والمثابرة والعطاء.. والعرفُ لا يذهب.. إذ الإبداع يولِّد إبداعاً, وجميلٌ الشاعر شوقي يزيغ يُسمعنا قائلاً في صوت “فيروز” وما سرى فيه من دفء وجمال الأداء وتمثُّل المعنى.
“ليس صوتاً، بل نهارٌ مشرقٌ بين شتاءين/ وأنصافُ بحيراتٍ, وشلالُ خواتم/ وما يجعل من قطعة موســيقا/أكاليلَ زهور, وشموعـاً/ ليس صوتاً هو, بل رجعُ فراديس”.
إنه الفنُّ، وعي تكاملي، وجذوة اتقاد لعاطفة حب ومحبة للوطن والإنسان والحياة في عمق نبلها الخير المعطاء البناء عبر الساميات قيما.
نزار بدور