كيف الحال!؟
د. نهلة عيسى
بالرغم من أنني معظم الوقت غاضبة من الزمن الرديء, إلا أنني أكره العنف, وتخيفني أفلام الرعب, وأتفادى الأدراج الرطبة المظلمة حتى لو كانت ستقودني إلى الغد, وأتجنب “المثقفين” المتشائمين, لأنه لا وقت عندي للعيش تحت وطأة جذام اليأس وزكام النقاش السئم, حول كيف ومتى؟ والكلام المحنط عن أننا, وسوف, ويجب ولابد!! فالعمر قصير, وقد أضعت منه الكثير في ساعات احتضار طويلة مؤلمة على مدار ثماني سنين, لا الوطن فيها تعافى, ولا “المثقفون” حسموا نقاشاً! أكره العنف, ويمزقني أن الحرب باتت مجرد عادة بائسة أخرى من عاداتنا المقيمة السقيمة, ولعبة “روليت” توقعنا يوماً بعد يوم في فخ هذا خطأ وذاك صواب, على الرغم من أنه في الحرب لاشيء حقيقياً سوى الجنون, وسوى أنها تبرر للمرء العيش والنوم دون ذنب على تل البقايا, والمضي “أوتوستوب” مع المجهول دونما حاجة “للتظارف” وادعاء البوهيمية, فآخر مظهر من مظاهر الحضارة (الحلم) يلفظ أنفاسه الأخيرة في بلادنا على كتف المفسدين, والفاسدين, والمدعين, و”المثقفين”, وبنادق “المتثورين” والإرهابيين!
أكره العنف, وتقلقني أفلام الرعب, ولكني أحتقر من يحاول إجباري وغيري على الوقوف في دائرة الطباشير لنثبت حبنا للوطن, فالثابت لا يتحول, والعارض غير مقيم, وأنا أكره الدوائر والمثلثات, ويضجرني المربع والمستطيل, والخطوط المستقيمة, وتثير ريبتي الخطوط المتوازية التي لا تلتقي, ولكنها بنفس الوقت لا تفترق, لأن افتراقها يغير قواعد اللعب على الحواف, حيث الخاسر ميت, والرابح في غرفة الإنعاش! وأنا لست ممن يصادقون الموت, وتشظيني زيارة المستشفيات, وألعن الحرب في اليوم مئات المرات, فقد سددت لها كل فواتيري, واشتريت بنزف روحي جبهتي واصطفافي ورفاقي وجروحي, ولم يعد بوسعي السير في دهاليز المرايا اللامتناهية, حيث يتماهى فيها وجهي مع وجه الحرب, لأنها باتت حكاية, كحذاء سندريلا, ينتقل من قدم لقدم, وتكبر قدم سندريلا, ولا يصل إلى قدمها الحذاء, ولا يعثر عليها أمير!
ألعن الحرب, لأن ضحكاتنا باتت أشبه بالغصات, وأعرف رغم قلة علمي في علم النفس, أن تحولاتنا المزاجية صارت صورة منسوخة بالكربون عن نشرات الأخبار الأشبه بمنصات إعدام, ومن حكايات وشائعات مواقع التواصل الاجتماعية, ومن التحليلات الجيوطائفية لطابور خامس, يبدو منا وفينا, يطبق علينا أساليب غسل الأدمغة, حيث الجميع بعرفه مدان, وفي قفص الاتهام, مادام لا يعتقد اعتقاده, ولا يوافق على اقتراحه, ولا يحمل المشاعل لحرق ما تبقى من الوطن!
وأنا, وأنتم, والوجع نتكئ على بعضنا البعض, ونتجلد في محاولة منا للإمساك بتلابيب الصبر وطول البال وعدم تقيؤ الذات, ونحن نستمع لهذه المعزوفات المجترة, لأننا نؤمن أن الحروب لا تخاض بالصوت العالي, ولا بقطع الشجر, ولا بالتباكي في مقاهي النميمة على شباب غض ذاد بالروح عن حدود الوطن, بل تخاض خبراً في مواجهة خبر, وحقيقة في مواجهة أكذوبة, وإيمان في وجه باطل, وعقل في مواجهة جهل, وعمل لرد الحصار, وبندقية لبندقية, وأظن أن مشكلتنا تكمن في أن معظمنا لسانه فحسب, هو حقيقته, وعمله, وبندقيته!
نعم أكره الحرب, رغم أنني أعيش منذ سنوات في غرفها السفلية, وكثيراً ما قلت لنفسي: أنه كان يجب أن لا أعيش هناك, وأن لا أرى, وأن لا أقرأ, وأن لا أعرف, لأن المعرفة في الحرب وجع الوجع, ومشاعر غضب معبأة في زجاجات معتمة, ونصر متوهم بطعم الهزيمة, وبسملة فراق, وقوارب مقلوبة على ظهرها على الشواطئ المقفرة كتحية وداع من مبتور يدين في لحظة ماقبل الرحيل! لكنني كنت, وكان يجب أن لا أكون, لأرى أن المشكلة لم تعد في الحرب, بل بمن يدعون أنهم يخوضون الحرب ضد تداعيات الحرب, فيقتلوننا يأساً, لنضاف إلى القائمة الوطنية “للمثقفين” عديمي الجدوى, المتبرعين بالكلام دون أن يسألهم أحد, لأن في بلادنا لا أحد يسأل أحد سوى عن الحال, ولا ينتظر رداً!؟