ما تبقى.. لنا!
حسن حميد
الآن، وبعد مرور سبعة وأربعين عاماً على اغتيال الأديب الفذ غسان كنفاني (1972)، ومرور ثلاثة وثمانين عاماً على ولادته، وبعد كتابات كثيرة عن سيرة حياته التي تكاد تكون رواية كل فلسطيني اقتلع من أرضه ودياره وشُرد في المنافي، وبعد كتابات كثيرة دارت حول أدبه، ونقّبت طويلاً عن أسرار كتابته، وتوقفت طويلاً أيضاً عند التقنيات التي استخدمها، والمعاني التي أراد التعبير عنها، وعند أجناس الأدب التي كتب فيها، والأهم تلك الدراسات التي ماشت عنفوانه الوطني الذي عاشه إلى آخر لحظة من عمره بتمام التوهج والقناعة والمحبة، على الرغم من أن مرض السكري (الشبابي) كان يرميه بين حين وآخر! بعد هذا كله، أتساءل ما الذي بقي لنتحدث به عن غسان كنفاني؟ وللإجابة أقول وبكل الطمأنينة: بقي الكثير، فسيرة حياة غسان كنفاني هي سيرة أي فلسطيني عرف فلسطين عاطفة، وتاريخاً، وبلاداً، وعمراناً، ووطناً، وقداسة.. فتعلق بها مثلما تتعلق الأشجار بجذورها، فقد هدّه الحزن وهو يهاجر قسراً من عكا وهو ابن اثنتي عشرة سنة، ويتعرض وأهله لمشاق الاقتلاع، والخروج من البيت خروجاً يشبه الحريق في التهامه القاسي لكل ما يصادفه، والارتماء المذل في حقول الغربة الشوكية، حتى تنحني الذات الرافضة لكل ما حدث، والعصية على التصديق لكل ما جرى.
قرأ غسان كنفاني كي يظفر بالشهادة لأنها غدت كل شيء، بها تتعلق الآمال من أجل تجاوز عقبات الحياة، والنفاذ من شباكها الشوكية، إلى الأحلام قصيرة المدى والأنفاس في آن. عاش اثنتي عشرة سنة في يافا (1936 – 1948)، وعاش اثنتي عشرة سنة متنقلاً بين دمشق والكويت، وعاش اثنتي عشرة سنة مقيماً في بيروت وهذه السنوات هي عمره كله (1936 – 1972)، كتب خلالها ثلاثين كتاباً وأزيد وفي جميع أجناس الأدب، بالإضافة إلى شغفه بالرسم، وقد ترك وراءه لوحات باتت اليوم جزءاً من التراث الفني الفلسطيني، وزاول عملين اثنين، هما التدريس، والصحافة، وكان أشبه بورشة معرفية مؤلفة من عشرات العقول والأيدي والأحلام، وترجمت قصصه ورواياته، ومقالاته، وقصصه المكتوبة للأطفال إلى عشرين لغة عالمية وأزيد، وأُخذت بعض سردياته إلى عالم السينما، ودُرّست قصصه، ورواياته، ومقالاته في المناهج الدراسية!
بلى، بقي الكثير من غسان كنفاني، فهو من نقل فلسطين من حال عاطفية معلقة على الدموع والبكاء والندب إلى حال وطنية سيدها العقل والوعي والإرادة، ونقلها من حال الرجاء والدعاء والانتظار إلى حال العمل والفعل والمشي في دروب المقاومة، ونقل المنافي الفلسطينية في المخيمات من حال الشكوى والأنين إلى حال شغوف بالثقافة والفنون والفكر عبر حوار شاركت فيه الأجيال الفلسطينية على اختلاف مستوياتها وأعمارها، حالٍ صارت فيها المخيمات الفلسطينية مقالع وطنية مع الإيمان بأنها أمكنة بديلة /طارئة للمكان الفلسطيني الأصيل.
غسان كنفاني جعل المخيمات التي تعشش فيها الأسئلة الحرون بيئةً صالحةً لكتابة الرواية الفلسطينية، وبذلك نفى مقولة أن بيئة الرواية هي بيئة مدينية، وذلك منذ المنتصف الثاني للقرن العشرين، والمخيمات كما هو معروف، ليست بيئة مدينية ولا بيئة ريفية، إنها بيئة الانتظار الممض الموجع الأليم، وكل ما كتبه غسان كنفاني لم يكن كتابة من أجل اختراع الدروب كي يمشي بها أهل فلسطين، ولهذا كانت روايته (رجال في الشمس) قولة الحق حين يضل العقل الدرب الموصل إلى فلسطين فيمشي في الدرب المعاكس، وكانت قصصه (الرجال والبنادق) رؤية للكفاح المسلح، وكانت روايته (أم سعد) تلخيصاً للمخيمات التي بدت مثل دالية محتشدة بالعاطفة واجتماع الناس، ولهذا بمقدوري القول إن أدب غسان كنفاني هو أدب وصايا ورؤيا، وليس أدب سرديات لأحداث وأخبار، إنها تجليات الروح الوطني حين يرى التاريخ والجغرافية والعمران، كُتباً حاضرةً، بكل زهوها وعنفوانها المقاوم، ومتجلية في العقل والوجدان!
Hasanhamid55@yahoo.com