السقوط البريطاني الحرّ
لم يكن لدى الإدارة الأمريكية بدٌّ من الاستعانة بأداتها في أوروبا، وهي بريطانيا، لتنفيذ الاستفزاز الأخير ضدّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية، عندما أوعزت إليها بقرصنة ناقلة النفط الإيرانية في مضيق جبل طارق قبل نحو أسبوعين، تحت عنوان: الالتزام بالعقوبات الأوروبية المفروضة على سورية، مع أن هذه العقوبات الأحادية تنصّ أصلاً على عدم شراء النفط السوري، وليس على بيع سورية النفط، وهي شأن أوروبي محض يخصّ دول الاتحاد الأوروبي فقط، وذلك كله مع وجود تأكيد إيراني أن الناقلة لم تكن متجهة إلى سورية، ما يؤكّد أن الاحتجاز له علاقة بحاجة أمريكية لتصفير صادرات إيران النفطية، خارج القانون.
كان السيناريو الأمريكي يقتضي أن تقوم حكومة جبل طارق، التي تتمتع باستقلال ذاتي تحت التاج البريطاني، بالإعلان عن احتجاز الناقلة الإيرانية، غير أن قيام قوات مشاة البحرية البريطانية بهذه العملية جعل الفعل بريطانياً محضاً، أي أن الاستفزاز عنوانه بريطاني بامتياز، أريد منه على وجه الخصوص أن تقوم إيران بإجراء مماثل في مياه الخليج، الأمر الذي يجعل الطلب الأمريكي الأساسي بتدويل مضيقي هرمز وباب المندب وإرسال قوات أجنبية “لحماية الممرات البحرية” أمراً ملحّاً.
ولكن أوروبا، التي تراقب المشهد جيداً، وتعلم أن الاستفزازين السابقين في الخليج كانا بتخطيط أمريكي، لم تستجب لمحاولات لندن، ومن ورائها واشنطن، إقحام أوروبا في هذا الأمر المحفوف بالمخاطر. وبعد أن رفضت أوروبا الانجرار إلى مثل هذا السيناريو، تحت عنوان “إنشاء تحالف دولي” لحماية خطوط الملاحة، مقابل إصرار الجانب الإيراني على سلوك الجانب القانوني لإثبات أن احتجاز الناقلة غير شرعي، وذلك بتعيينه محامياً دولياً متخصّصاً في هذه المسائل، أي أنه سحب من لندن وواشنطن أيّ مبرّر للقول: إن طهران احتجزت ناقلة نفطية بريطانية في الخليج ردّاً على ذلك، وهذا ما حدث فعلاً، وجدت الحكومة البريطانية نفسها مضطرّة إلى البحث عن طريقة للنزول من أعلى الشجرة التي صعدت إليها، فاضطر وزير خارجيتها جيريمي هانت إلى الاتصال مرتين بنظيره الإيراني مدّعياً أن سبب احتجاز الناقلة وجهتها وليس مصدرها، ليردّ عليه ظريف بالقول: إن إيران ستواصل تصدير نفطها رغم جميع محاولات واشنطن تصفيره.
والأهم من كل ذلك أن واشنطن، التي كلّفت الحكومة البريطانية إنجاز مهمة القرصنة، انسحبت هي نفسها من الموضوع، بعد أن أقرّ مجلس النواب الأمريكي تعديلاً يمنع ترامب من شنّ أيّ عملية عسكرية على إيران دون موافقة الكونغرس، وبالتالي وجدت لندن نفسها وحيدة في مواجهة دبلوماسية وقانونية خاسرة مع إيران، فضلاً عن عواقب التفكير بأيّ عمل عسكري ضدّها.
ومن هنا جاء تواصل هانت مع ظريف محاولة لإيجاد مخرج لحكومته من المأزق الذي وضعت نفسها فيه وحفظ ماء الوجه، بعد أن تأكد للعالم أجمع أن القرصنة التي ارتكبتها لا يبرّرها إلا الخضوع البريطاني الواضح لأوامر واشنطن، وذلك مع وجود رفض أوروبي غير معلن لتغطية هذا الأمر، حيث يمثّل التراجع البريطاني حقيقة “سقوطاً حرّاً” من أعلى الشجرة، بعد أن استنكف جميع الحلفاء بما فيهم واشنطن عن تأمين سلّم لإنزالها بشكل طبيعي.
طلال الزعبي