غنائيـــــــة الكلمـــــــات
يغتبط المرء كثيراً عندما تتسع أمامه دروبٌ, وتُفتح له نوافذ, ولا سيما إذا ما كان ذلك الاغتباط حصاد زَرْعٍ وكدّ وعمل. إذ جبهتُهُ مسرحُ حبات عرق, هي وأشعة الشمس على موعد, وقد باكرها الصباح بإطلالة ضياء, وحيوية جهد وفتوة أداء نوعي في حقول الحياة الممتدة فضاءً رحباً, مداهُ آماد الخير العميم. لكن الأمر, يبدو باهتاً عندما يكون نتاج الاغتباط بعض انزياحاتٍ في اجتهادات ظروف نتيجة تعثرٍ, هنا أو هناك, جرّاء بعض علاقات خارج معطى منطق الموضوعية في مقاربة دلالة “مَنْ جدّ وجد” فالسعادة في مكافأة زرع في حقل, وجني محصول في بيدر وفق تراتبية البدهيات البيّنة التي صداها إنتاجاً عناقيدُ, هي ثرياتٌ من ذهب.
والمؤكد في مصداقية تلك التراتبية أنها حاضرة في محبة الضمير الشعبي الكامن في الوعي العقلي, والوجدان القائم على حب الحق والعدالة تحفيزاً لجملة القناعات العقلية الناصعة في منظومة الوعي البشري، بحيث يجعل ذلك الضمير الشعبي مطلق حضوره في مفردات تحكيها سلوكات واقعية تتجاوز الركام اللفظي, من جانب, وتقوى في المعنى النبيل الناجز واقعاً ملموساً فيه ثقافة معرفة.
وبهذا يتأكد الجد الطالع من أعماق التعب الصادق الذي يورق نجاحاتٍ تُفرح الجميع، ويُبرز من جانب آخر شيئاً من تبيان حقيقة دالة على إبراز وجوده في مكان جرّاء ترهل ظرف, أو براعة استقوا فيبدو الوهن لأنه غير مزهو بأناقة تعب كما يقارب البريق ذاته لدى مَنْ حقق قولاً وفعلاً “نفس عصامٍ سوّدت عصاماً” وقد تأكد ذلك الجدّ مصداقية حضور عبر مصداقية تعب، غير ملتبس في مدى محدودية ذاته أو اتساعه، إذ ليس المهم في حقيقة الأمر موضوعياً أن يكون المرء في مكان بإرادة القوة, بل أن يكون بإرادة الفعل، والأجمل, والمطلوب أن يكون بهاؤه صوغ نسج قِطاف ثمرة في تقدير كفاءة, وخبرة, وتاريخ عمل مطرّز, كلها حقائق على سطور الواقع تسعدُ بها بصيرةُ الإنسان الحضاري القيمي المتعقّل الذي ميزان وعيه إنصافُ ما عند الآخرين من ميزات ومهارات ونتاجات, ودلالة حضور لافت, فالجميل يعرف مواضع الجمال طبيعةً وفكرةً وقيمة في الحياة والإنسان, لأنه يجسّد تعريف الجميل القاطن بريقاً في وهج الفطنة والنباهة ولأنه يدرك بدقة ملاحظته الفرقَ بين السمو والابتذال وبين المأساة والملهاة, ويعي عظمة حكمة من حِكم العرب “أعطِ القوسَ باريها/ وفق معطى الرغبة الدائمة/ الإنسان المناسب في المكان المناسب.
إنّ المهم هو نتاج الشخصية, ومفردات عملها وما قدمته, ولا سيما، إذا ما كان مميزاً يفيض بذلك الواقع ويقدره الآخرون في حميّة الوجدان الحي, والضمير الصاحي أبداً على سداد الإنصاف, واتزان الرأي.
ومما لا شك فيه أنّه ليس المهم أن يكون المرء حاضراً على منبر, أو كاتباً لعبارات, أو محتفياً بذاته في مكان, بل المهمُّ هو دهشُ الفهم فيما يقول ويفكِّر ويعمل عبر أفكار جديدة ومحاججة فطنة في توكيد رأيه بعقلانية منفتحة خيّرة مداها آفاقُ العطاء, وأن تكون سطوره مثقلة بثمرات الإبداع المحصّنة بالثقافة المعرفية البحثية التي متونُها كتبٌ ودراسات من مصادرَ ومراجعَ ضيافةَ كَرَمٍ لقارئ حقُّه كلُّ جميل “أحدّثه إن الحديث من القِرى” فمثاقفة الوعي زادُ العقل الذي لا نفادَ له، ولا سيما, إذا ما تجذّرت تلك الأفكار في أديم الصدق الواقعي، وقد تراءت سنابل قمح, تواضعُها في رقّي محتواها لُباباً, وقد تساوقت عبر سلوكات متوّجة بالفهم الحضاري لتغدو أرغفةً مقمّرة في تنانير الذائقة الرهيفة في مصداقية القول والفعل ولقاء الإنسان بالإنسان.
ومنذ زمن قالوا: “إن كلام الإنسان العادل كالفضة الخالصة, فقوة النقود في كتلة الفضة المتفق عليها, وقوة الكلمة في مصداقية ثقافتها” وكما قال جورج أورويل: “أكثر ما يضرّ باللغة عدم الإخلاص”, وواقع سلوك في إشراقة حضور زاهٍ بعناق تلاقٍ بين مسمّى قوة, ومسمّى فعل, إنّ الحياة قائمة بأشداء الرجال الذين قوتُهم في عصاميتهم, وتاريخ اجتهاداتهم على كل صعيد, فتلك الشدة رحيقُ الجمال المعرفي, والانفتاح الإنساني, ونبوغ العقل المهاري, وحصافة الوقار السلوكي الذي هدفُه نقاءٌ غايته: “أحاديث تبقى والفتى غير مخلّد”.
نزار بدور