الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

منـــاجـــاة

 

 

 

سلوى عباس
بعد محاولات عدة استطاعت هالة أن تفتح الباب وتدخل لترى حالة من الفوضى تثير الاشمئزاز والاستياء.. أخذت تنادي صديقتها لكن ما من مجيب.. دخلت إلى حجرة النوم وتحسست الجدار حتى عثرت على مفتاح الكهرباء فأشعلت الضوء ورأت الغرفة كما باقي غرف البيت، تعاني من الإهمال وعدم الترتيب، كانت صالحة قد انكبت على السرير دون أن تنتبه إلى صديقتها التي أتت تطمئن عليها إثر غيابها عنها لفترة طويلة، وأخذت توضب أغراض الغرفة وترتبها وتسألها عن سبب غيابها الذي لم تُعلم أحداً به، وهل من خطب قد أصابها، لكن ما من إجابة ولا حتى نظرة، بل ظلت صالحة مستلقية على وجهها دون أن تعير كلام صديقتها أي اهتمام فأقبلت عليها وهزتها من كتفيها وما من مجيب، الأمر الذي أقلقها، ومع ذلك رفعت لها وجهها بصعوبة فوجدتها وكأنها غائبة عن الوعي فأخذت توبخها على إفراطها في الشراب، ومتى ستقلع عن هذه العادة التي تؤثر على صحتها، وترهقها، لكن الموضوع لم يكن كما ظنت، بل إن صالحة حاولت الانتحار ولم تنجح محاولتها.
عقدت الدهشة لسان الصديقة التي راعها أن تقدم صديقتها على الانتحار، وهي تسألها ما الذي يدفعك إلى هذا العمل الذي يغضب الله، وتدفعين ثمنه وحدك..؟ وهنا انتفضت صالحة قائلة بسخرية: معك حق، من يسمعك يظن أني قضيت حياتي كلها بالعبادة والتقوى، والآن أقدم على عمل يغضب الله، ما هذا الكلام الذي تهرجين به؟ وكأنك لاتعرفين سيرة حياتي التي قضيتها في الملاهي الليلية، يتناوب على جسدي رواد هذه الملاهي ويستبيحونه دون أي اعتبار لإنسانيتي.
هذا الكلام أدهش صديقتها أكثر لأنها تعرف أنها اختارت هذا العمل بمحض إرادتها، فقالت لها هذا كان اختيارك منذ البداية، وأنت تعرفين أنه في هذه الأجواء لايوجد من يقيم اعتباراً للإنسانية، بل هم يشترون بنقودهم متعة كما يشترون أي سلعة، ولايهمهم الضريبة التي تدفعينها أنت وغيرك ممن يعملن في هذه المهنة، وقد حذرتك من عواقبها وقذارتها، لكنك كنت تجدين المبررات لاختيارك هذا دون أن تحسبي حساباً للغد، ولكن ما الذي حصل الآن حتى تعيشي هذه الحالة من الاستياء من عملك الذي كنت تهندسين مستقبلك على أساسه، وتخططين لتصبحي من الأثرياء وتتخلصي من الفقر.
أجابت صالحة والندم والأسى يعفران وجهها وكأنها قد خرجت من القبر لتوها وحدثت صديقتها عن أصوات الأطفال التي تسلبها روحها كل يوم أثناء مرورها من أمام روضة الأطفال، هذه الأصوات أيقظت الأمومة في داخلها، وانتابتها الرغبة في أن يكون لديها طفل، وتستدرك وتقول: لقد سئمت عملي، وسئمت جسدي الذي عليَّ الاعتناء به دائماً ليرتاده الزبائن، لقد تعبت وأريد أن أرتاح، أريد أن أعيش إنسانيتي، كم أرغب أن أعيش مثل الآخرين بأمان افتقدته طوال عمري، وكم أحلم بتوبة تعيدني إلى رشدي، وألتقي برجل يغفر خطاياي، وأبني معه أسرة أتفانى في خدمتها، ما الذي يضير أن يتحقق هذا الحلم..؟ هل هو صعب التحقق؟
أمام هذا الكلام لم تعرف صديقتها بماذا تجيبها، لكنها بعد صمت طويل قالت لها: لقد فات الأوان على حلمك هذا، ولن تستطيعي أن تعيدي عجلة الأيام إلى الوراء، فهذا كان خيارك من البداية، وأمام هذا الكلام غابت صالحة في شرود طويل وكأنها تستعرض شريط حياتها دون أن تتفوه بكلمة، وكأنها استسلمت لقدر ليس بيدها أن تغيّر منه شيئاً، فما كان منها إلا أن ارتدت أجمل ثيابها وتزينت وتعطرت وذهبت إلى عملها تعض على جرح يقض روحها بأن ماتحلم به ما من رجل سيحققه لها، وأقنعت نفسها أن هذا نصيبها من الحياة ولامفر لها من قدرها.