الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

يجوز الوجهان

 

د. نضال الصالح
أحد تعبيرات اللغويين والفقهاء حول مسألة في اللغة أو الفقه أو القراءات، ويعني أنّ المسألة قابلة لتفسيرين أو تأويلين معاً، ومن ذلك في اللغة جواز النصب والجرّ في تمييز “كم” الاستفهامية، وجواز الرفع والنصب في الاسم المصحوب بـ”أل” إذا عُطف على المنادى، وجواز الابتدائية والفاعلية فيما يُعرف بالاحتمال الظاهر للمبتدأ، ومنه جواز تذكير بعض الألفاظ وتأنيثها. ومنه في الفقه مكروهات الوضوء ومبطلاته، وجواز الأكل من الأضحية المنذورة وعدم جوازه، وجواز قرض كلّ مال يُملك بالبيع ولا يُضبط بالوصف وكراهيته. ومنه في القراءات جواز الترقيق والتفخيم في الألف الساكنة واللام من لفظ الجلالة.
وفي الواقع أنّ جواز الوجهين شأن إنسانيّ أيضاً، ويُقصد به قولٌ، أو موقف، أمام أحد أو جماعة، ونقيضه، أو نقيضهما معاً، أمام آخر أو جماعة أخرى، تقديراً من صاحب القول أو الموقف بأنّ سلوكه حكمة، وحنكة، ورجاحة عقل، لأنّه لا يخسر أياً من المتغايرين قيماً أو مبادئ أو مواقف، ولأنّه، بذلك، وتقديراً منه أيضاً، يسترضيهما معاً، فيغنم من فتات هذا ومن سقْط ذاك.
في الصحيحين قوله: “تجدُ مِن شرّ الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه”، وفي حديث آخر: “مَن كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار”، وفي ثالث: “ملعونٌ ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كل شغّاز (مَن يلقي بالبغضاء بين الناس)، ملعون كل قتّات، ملعون كل نمّام، ملعون كل منّان”. وفي تفسير القرطبيّ قوله: “إنما كان ذو الوجهين شرّ الناس لأنّ حاله حال المنافق”. ومن أمثال العرب قولهم: “تحت جلد الضأن قلبُ الأذؤب”، أي ذئاب، وهو كناية عن المنافق والمخادع والشبيه بالحرباء التي تكيّف لون جلدها مع لون الوسط الذي تكون فيه، وقيل إنّ “النفاق من أثافي الذلّ”.
أجل، فذو الوجهين يمضي حياته ذليلاً، مسترضياً ومستعطفاً النقيضين، ولائذاً بالظلّ أبداً، ولاهثاً وراء ما يتكسّب من أعطية هنا وأخرى هناك، كما يمضي حياته نكرة مهما بلغ من المعرفة، ولعلّ ذلك ما قصد أحد المفكّرين إليه بقوله: “عندما يرتضي أحد بأن يكون مثل القطعة النقدية بوجهين، فإنّه يقضي عمره كلّه متنقلاً بين جيوب الآخرين”، ومن بديع العرب في هذا المجال وصفها لذي الوجهين بالغريب، ومن بديع ما قرأت قبل نحو عقدين مقالاً للراحل د. نعيم اليافي يسمّي فيه أكاديمياً دأب على عدم الجهر برأي له أو موقف، بل على موافقة مختلفين في الرأي والموقف، بـ”يجوز الوجهان”، وعلى نحو يُذكّر بما أورده الطالبيّ في كتابه “نزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر” عن أحد سلاطين الهند الذي كان بارعاً في صياغة أقوال إذا قرأها العربيّ كانت عربية، وإذا قُلبت كانت فارسية.
وبعد، فما أحوجنا في هذا الزمن الذي يتكاثر فيه ذوو الوجهين إلى أن نردد ما كان الشاعر العباسي قال قبل ما يزيد على ألف سنة:
لا كانَ ذو الوجهين
وصاحبُ اللونين
الخـــادعُ المنافــــقُ
الملِـــــقُ الممــــــاذقُ