“الوقت”.. سرد شاعريّ بعدسة الكاميرا
أهميّة رواية “الوقت”:
تشكّل رواية “الوقت” للكاتبة السوريّة “هدى فاضل” إصدار الهيئة العامة السوريّة للكتاب لعام 2019 نمطاً من أنماط الكتابة الواقعيّة الجديدة المحفّزة للقارئ والناقد، سواء على مستوى الوعي الثّقافي الذي يكتنفها، المؤمن بالتّعدديّة والاختلاف، أو مستوى البنية الأسلوبيّة التي وظّفتْ تقنيات فنّية متعدّدة في حياكة نسيجها السّردي، مثل: (الشاعريّة، تعدّد الضمائر الساردة، تبئير المكان كمشهديّة سينمائيّة ومسرحيّة، السّرد اللّولبي الكاسر لأفقيّة الزمن، اللّعب الذّكيّ بمخيّلة القارئ وتوريطه في تجسير هوّة الانتقال المفاجئ من ضمير سارد إلى آخر بلا تمهيد أو فواصل، تحويل فكرة الزمن الفيزيائي ــ باعتبارها إيقاعاً لنبض الكونــ إلى فكرة ثقافيّة فلسفيّة تنتظم موسيقاها مع نبض القلوب العاشقة الفاعلة في الحياة..الخ). وقد مارستْ الكاتبة على القارئ غنجاً سرديّاً أنثويّاً محببّاً، إذْ بدتْ مستعدةً لتسليمه مفتاح الولوج إلى عوالمها التّخيليّة، شرط أن يكون عاشقاً لهذا الوجود، مجيداً للسّباحة في أمواهه، غير غافلٍ عن تقلّبات فصوله وأمزجته التراجكوميديّة، عاشقَاً للزّهو، لا تكسره الخسارات الموجعة، ولا تثنيه العواقب، عن ارتياد المجاهيل، أو كلّ ما من شأنه إثراء تجربته الوجوديّة، تقول الكاتبة: “لكي تلامس الحياة عليك أن تكون عاشقاً”.
الرؤية الفكريّة:
للوقوف على مستويات الوعي في الرواية بضّمائره السرديّة المتداخلة، لابدّ من تشرّب سلس لمقولة “الأنا والآخر”. فالأنا الساردة بدت أنوات متناثرة متكاملة، والبطولة تجلّتْ جماعيّة، لم يحتكرها بطلٌ مهيمن، كشأن أغلب السّرد التّقليدي. بهذا المعنى يغدو الآخر، هو أنت أيضاً المتواري في الجينات “مذكّراً ومؤنّثاً” قبل انقسام البذرة إلى جنسين متكاملين. لقد استطاعت الكاتبة الخروج من عقدة الاضطّهاد التّاريخي، التي ميّزت أغلب نتاجات كاتباتنا المحترمات، مبتعدةً عن نمطيّة التفكير المخصيّ الذي يرى بالأنثى مجرّد “ضّحيّة” مقهورة تسيّرها قوّى اجتماعيّة وقدريّة غامضة، مقصيةً إيّاها إلى الهامش، تبثّ لواعج عشقها المحرّم لذكر جاحد أو خائن تتفانى في سبيله دون جدوى، فأعطتْ نماذجَ حيّة لأناثٍ فاعلات حرّات استطعنَ شقّ طريقهنّ، وتعميق تجاربهنّ بقوّة، بوعي وجودهنّ كشريكات فاعلات في المجتمع والحياة، حتى لو كنّ يعشنَ ظّرفاً استثنائيّاً هو “الحرب” وربّما بسببه أيضاً، حيث لا تستطيع أيّة قوّة منع الوعي الأنثوي من الانطلاق، ومن ثمّ التّبلور وتحقيق الاستقلاليّة التامّة ضدّ أيّة تبعيّة لو أراد ذلك. هكذا كنَّ، مبادرات، قادرات على إنجاز تجاربهنّ الخاصّة، سواء على صعيد العشق كـ “فنّ للحياة وابتداع الجمال” أو حين انضمامهنّ إلى مؤسّسة الزواج الرسميّة طواعية، أو بحكم ضرورة ما.
كما استطاعت الكاتبة خلق المسافة الموضوعيّة تجاه الشخصيّات والأحداث، لتلامس بحياديّة وصدق وإقناع ما يجري في الحياة الواقعيّة، حيث بقيت عدستها تتجوّل برشاقة، راصدة ردود أفعال ومشاعر ومواقف الشّخصيّات التي مثّلتْ أطيافاً متنوّعة من المجتمع السوري بمثقفيه وطوائفه المتعدّدة، ليتداخل السّرد العنكبوتي بقدرة لافتة، فلا تكاد تعرف من هو المتكلّم، إلا بعد تدقيقٍ وتمحيصٍ ومحاولة ربط وإعادة قراءة، ليكتمل المشهد في ذهنك. الفضاء التّخييلي المرسوم لمجريات الأحداث وتحرّكات الشّخصيات اندغم بقوّة في المكان الواقعي العام الذي تجري فيه الأحداث الحقيقيّة، وهو الجغرافية السوريّة. وثمّة أمكنة واقعيّة صغيرة “حمص، مستوصف الهلال الأحمر، معرض الفنّ الضّوئي، شكّلت بؤراً إشعاعيّة لمنطلقات العمل السّردي ككلّ، حيث كانت أشبه بمنصّات مسرحيّة، توالتْ الأدوار مكثّفةً على خشباتها، تحت عدسة كاميرا لا يفوتها التقاط وشعرنة التّفاصيل مهما صغرت.
يبدأ زمن القصّ باستخدام الفعل الماضي من خلال سارد عليم يتكلّم عن الشّخصيّة الأساسيّة بصيغة الغائب قائلاً: “كان دائماً يعيش على مقربةٍ من الحياة” لتؤكّد الشّخصيّة الأمر بلسان المتكلّم هذه المرّة: “لم أكن داخل الحياة يوماً” ثمّ يبدأ هطول الأسئلة الوجوديّة المقلقة، الأسئلة الكبرى للذّات التائهة التي عصفتْ بها الحرب: “ما الحياة؟ لماذا أنا لا أعيش…”. وتتوالى الضّمائر السّاردة على قصّ الأحداث، كلّ واحد من وجهة نظره، التي قد تتقاطع أو تختلف مع الآخر كما في الحياة تماماً. ويتحرّك السرد في فضاءات زمنيّة ثلاثة “ماض” قريب يتداخل مع “حاضر” مازالت أحداثه تتفاقم وتأخذ مسارات لولبيّة مختلفة تتجه نحو “مستقبل” ضبابيّ الملامح، ليعود بارتدادات سريعة نحو الماضي القريب أو العميق عبر عمليّة مزجيّة تنصهر فيها الأزمنة وتتكثّف مع زمن الحدث الروائي والنفسي للأبطال ذاته، لكن رغم هذه القفزات الارتداديّة المتذبذبة للزمن فقد بقي يتحرّك بمسار خيطي نحو المستقبل، كما ينطلق الحدث الواقعي من “المعرض الفنّي” الذي يقيمه “ليل قصير” وينتهي فيه على المستوى التّخييليّ أيضاً، مع عرض شبه تفصيلي للأحداث التي جرت خلال الزمن الفيزيائي منذ انطلاق الحدث وحتى إيابه، وبما أنّ الزمن الفيزيائي الذي تجري فيه الحرب مازال مستمرّاً فاللّعبة الاسترجاعيّة لوعي الزمن ما زالت مستمرّة، لكأنّ هذه الدائريّة في وعي الشّخوص لما يجري في الزمن الارتدادي تحاول أن تشير إلى تكلّس مفهوم الزمن في المجتمعات العربيّة الذي يقابله تكلّس في الذّهنية الثقافيّة المأزومة التي مازالت تعيش في الماضي، ربّما بسبب عدم قدرتها على خلق هويّتها الواضحة في حاضر شديد التّغيّر، وهذا بدوره يساهم بتضخّم الأنا كتعويض عن الفقد. فـ “ليل” يرى بعودة “جود” إلى معرضه في نهاية الرواية وتأمّلها بـ”قطرة النّدى” أنّها عادت لأجله وهي تتّهمه بدورها بملاحقتها مع أنّها تعي بداخلها أنّها تلاحقه هي أيضاً، تحت وطأة شعور غامض لا تعرف كنهه، بينما بواطن لعبة التّخييل توضح بأنّها تبحث عن ذاتها المفتقدة في ماضٍ ما، علّها تراها في مرآته.
تطرح الرواية جدليّة فلسفيّة يعانيها الكائن المثقف ذكراً وأنثى في ظروف الانهيارات المجتمعيّة وانهيار المنظومات القيميّة حيث يصبح العبث سيّد الأشياء والأفكار، تلك الجدليّة القائلة: “إذا لم نتزوّج نندم، وإذا تزوجنا نندم، إن لم ننجب نندم، وإذا أنجبنا نندم وهكذا دواليك..” والتي تتقاطع مع جدليّة أخرى غير مفهومة قائمة على فلسفة الحبّ، مفطورة على فكرة الحريّة وتعدّد الخيارات، تقول الكاتبة: “من تحبّه ليس لك، ومن لا تحبّه لك!” لكأنّ كائن رواية “الوقت” منفصم عن ذاته يعيش شروط الحاضر الفيزيائي ونمطيّة التفكير السائدة وأعرافها ككتلة ماديّة، بينما روحه وخياراته ومشاعره، هناك في الزمن المحلوم به نفسيّا وتخييليّا. وكأنّ “الحياة هي في مكان آخر” كما قال يوماً الروائي “ميلان كونديرا”.
أمّا العنوان فقد اختارته الكاتبة، إيحائيّاً مكثفاً، ليشكّل نصّاً موازياً لمجمل السّرد، حيث تحضّر المجتمعات ونهوضها يكون بمقدار وعيها لقيمة الوقت الكبرى، واستثمارها الإبداعي له، وهو عنوان منقوص نحويّاً، يكتمل وتردم فراغاته بالقراءة المتفاعلة أثناء توغلها في سياقات السرد، تقول الكاتبة: (الحبّ معيار الوقت، هو معيار دقيق جدّاً، وليس فيه من مجاملات لمن يعتقدون أنّ هنالك فائضاً من الوقت، يشمل جميع الأحداث، ويطلقون على بعض الوقت “وقت الفراغ” في كلّ ثانية أو في كلّ جزء من الثانية قد يحدث من الأحداث ما لسنا قادرين على تخيّله، وهنا يبرز صوت الكاتبة الخفي وهي تهمس: لأولئك الذين قد لا يعرفون أنّه ما من وقت خالٍ من حدث، فقلبك ينبض باستمرار). إذن، ثمّة ما ينتظرنا لنفعله دوماً، يقول “ليل”: (.. وعدتُ من حيث بدأت حياتي) ليقيم معرضه تحت عنوان “الوقت” من جديد. وكأنّي بالكاتبة تريد القول: صحيح أنّ الحرب هي مرحلة كابوسيّة مرعبة، ولكن يمكننا تجاوز نتائجها الكارثيّة بالمزيد من الإبداع والخلق. قد تكون أعادتنا إلى المستوى الصّفريّ، لكن من قال أن درجة الصفر ليست إيجابيّة؟! ألا يكفيها أنّها تعيد إنتاج الأسئلة من جديد، وتخلخل مداميك اليقينيّات القارّة؟!.
رواية “الوقت” قابلة لأكثر من قراءة، وعلى أكثر من مستوى، ولعلّ هذه القراءة ليست أسوءها.
أوس أحمد أسعد