إجازة أسبوعية
كان دائما ينظر إلى نصف الكأس الممتلئ، لم يكن متشائما أو من النوع الذي يتحجج بالحظ ليواسي خيباته على مر سنوات طويلة من عمره، عاشها متعبا مهملا لا أثر لوجوده إن حل أو رحل، إنسان بسيط وعادي جدا، وكثيرا ما كان الآخرون يتقصدون عدم الاكتراث به أو رد التحية عليه، ليس لأنه شخص سيء ولكن على ما يبدو أن فقر حاله وهندامه البسيط لم يعد يناسب مقاماتهم أو “برستيجهم” الذي خرج للضوء فجأة من رحم لعوب وفي ظروف لم تعد غامضة أو مجهولة النسب. “السلام لله” قال لنفسه، لكن العباد يختلفون في إيمانهم وعقائدهم وفي خلفياتهم النفسية والاجتماعية، فلا عتب على الجاهل مثلا، ولكن بالتأكيد العتب على المتعلم من الحياة، العارف بأصولها ولن أقول هنا المثقف، فالثقافة مفهوم أكبر من حاملي الألقاب والصفات والشهادات الفخرية الذين يكتفون بالتنظير من خلف المنابر والشاشات وهو بحكم عمله أدرى الناس بهم.
كانت الإجازة الأسبوعية بالنسبة له هي الاستيقاظ بعد التاسعة بقليل، واحتساء القهوة على مهل والتمتع بحمام دافئ يغسل هموم الأسبوع ومشاكل العمل في الجريدة المحلية التي توظف فيها على شهادة الآداب قبل ربع قرن ومن ثم الانطلاق في رحلة على الأقدام، لا يهم إلى أين المهم أن يجوب شوارع جديدة وأزقة لم يمر بها لعله يحظى بما في خاطره.
أفران الخبز لها نصيب من رحلته، يتوقف ليسحب رغيفا ساخنا من شباك الفرن اللذيذ ويتبعه قطعة من الحلاوة الطحينية اعتاد أن يشتريها من البائع الأشهر في المدينة والذي أصبح اسمه علامة تجارية معروفة فيما بعد. ومن هنا صحن فول من عربة جوالة ومن هناك عرنوس من الذرة خرج لتوه من طنجرة مياه ساخنة، هكذا يمر النهار عليه بين الوجوه في الشوارع والأسواق والحديقة العامة ووسط هذا الزحام كله “تتمختر” الكثير من القصص والحوادث أمامه فيلتقطها بخفة ويخبئها في جعبته قبل أن يسبقه إليها أحد كي يحولها إلى مواد صحفية فيحافظ على وجوده في الجريدة ويكسب مبلغا إضافيا إلى راتبه يسد به ثمن فاتورة مثلا أو دين ثقيل على دفاتر البقال، وكم شبّه نفسه باللص وهو يسرق الحوادث من أفواه أصحابها، أو من الرحلات الأسبوعية وما تحمله من مواقف وحكايات، لكنه عزا الأمر إلى أنها سرقة مشروعة لا يؤذي بها أحدا ولا يلوث سمعة فلان أو علان كما يفعل البعض من ذوي الأيادي غير النظيفة. إنه فقط يحاول الاستمرار كي لا يخسر سبب رزقه الوحيد بعد أن تعطل خياله عن العمل وهاجرت أحلامه إلى بلاد بعيدة لا تعرف الخوف.
عاد بعد أن لوحت له الشمس مودعة، متعبا مثقلا من هول ما شاهد وسمع من شركائه في هذه البلاد. بعض القصص أقسى من أن يكتبها وبعضها مضحك حد البكاء، إنها المفارقات الموجعة على أصولها..
سحب كرسيه الخشبي وجلس وراء الطاولة يفرغ حمولته على الورق المبعثر أمامه. وبحلول منتصف الليل كان قلمه يكتب وحده بينما هو يغط في النوم مستجديا أحلامه أن تعود على هيئة مثيرة تفرز هرمون السعادة في جسده الميت، ولكن للأسف جاءت على شكل كوابيس مفزعة تشبه تلك التي أيقظته كي ينام في سريره بصوت حاد كالموس ذكره بأيام الخدمة الإلزامية. وعلى الفور قام من مكانه بهمة مجند عشريني وقبل أن يذهب إلى مخدعه كتب عنوانا للمادة الجديدة “إجازة أسبوعية” ووقع باسمه أسفل الورقة.
ندى محمود القيم