ثقافةصحيفة البعث

النكبة من جديد..

بعد كل هذه السنين.. هل لازلت متمسكاً بفخرية؟ أجبت نعم.. إنها أول قالب حلوى أتذوقه بسذاجة بالغة، وقد كرست كل حواسي للعمل على تخليصه من كل العسل والسكر.. نسيت أو تناسيت أن الحلوى بدون سكر لن تكون.

عشت كل أيامي برفقتها كزوج وزوجة غير عابئين بمجريات الأحداث من حولنا، إلى أن بدأت موجة الحروب التي اجتاحت يقظتنا وأحلامنا.. العراق ثم تلتها ليبيا واليمن فسورية إلى أن فقدت فخرية طعمها الأصلي وباتت محشوة بالخيبة والعزلة.

كنت مدركاً أن الطفل في داخلي لايزال ينظر خلفه إلى السذاجة المبكرة التي حصلت يوم أحببت فخرية لأول مرة في حياتي.

وجدت هذه الصبية ضالتها لكسب قلبي أكثر بطرق حيوية وغريزية فأنجبت طفلتي الوحيدة نجاة والتي كانت تشبهني حتى في ظلها، مع إدراكها الموروث بأن ثبات الرجل في ما سيخلفه من الأرحام بناءً على توصيته الحمراء، وبالفطرة أصبحت مسؤولاً عن الطعام والشراب والحماية والأمن والسلم الأسري الذي كدت أن افقده لولا نظرة الرحمة من ربي، ومع استمرار الحرب وتفاقم الكارثة ظللت على ذات القدر من المسؤولية والتطلع نحو غدٍ أفضل للصبية وأمها التي ازدادت شحوباً ونحولاً جراء العيش على الكفاف وسوء التغذية، فأنا لم أعد كالسابق، وجسدي لا يحتمل العمل لأكثر من نصف يوم كامل أخلد بعدها للراحة وقد لا أستريح.

معظم الجيرة والأقارب تخلوا عن خدماتي، ولم يعد باستطاعة فخرية تشجيعي أكثر أو تحفيزي ولو بالشعارات.. النذالة حاقت بي من كل صوب وحدب وأنا على ذاتي أدور وأدور.

لا أظن أن فخرية وبعد كل ما حدث حول العالم ستقبل أن ترتدي فستانها البنفسجي الذي أغرتني به ليلة الدخلة، ولن تقبل بشكل قاطع وضع “الروج” أو الحناء كما فعلت يوم حطين. لا بد وأن كل تلك المآسي قد حصدت كل الأشجار في داخلها وأبقت على الحجر والرمال.. انه التصحر العاطفي لامرأة لم تتجاوز بعد سن اليأس.

أنّى لي أن أنظر في وجه فخرية وهي تجمع زجاج النوافذ المتناثر على الأرض وبكاء طفلتي يملأ الحي رعباً.. كيف سأصنع ضحكة جديدة توازي في جودتها ذلك الصخب والألم الذي خلفته القنبلة الغبية أمام منزلي؟. لعل من مات لن يحيا مجدداً.. وإذا ما أردت نبش الماضي سأكون محكوماً بالفشل، وهذا بحد ذاته مضيعة للوقت.

تحدث إلي مطيع وذكرني بتجربة والده الذي تزوج من فتاة لبنانية تشبه القمر، وقال: إن التجديد لا بد منه وأنت بأمس الحاجة إليه كون ما حصل يعد إهمالاً وتقصيراً من فخرية ذات نفسها.

بدأ حديثه ينساب في عروقي كوسواس لم أعد أحتمله، فإما أن أتزوج صبية جديدة أو أبقي على فخرية وأعيش نزاعاً لا بد منه. كيف ستتحمل فخرية هذه الضربة على الرأس بكل هذه الشدة؟ ماذا ستقول، أبعد كل ما حدث تبيعني وترمي بعظامي للكلاب والمارة؟.

معها حق، فلم يبقَ منها سوى العظام، لكنها بنفس الوقت تساهم بإضعاف شعوري في الانتماء لهذا البيت الخرب، ومن الظلم تحميلها كل أسباب الحروب والإرهاب والترويع الذي أصاب هذا البيت، وكعصفور جريح توجهت إلى بيروت ليلا عبر طريق الساحل من طرطوس الذي يمر بمدينة طرابلس وقضائها.

لا مفر من التوقف عدة مرات لشراء الأشياء الغريبة، لأن ما يقع عليه نظرك غريب حقا، فأنت دخلت من دولة إلى دولة، ومن بيئة إلى أخرى.

ذهبت بصحبة عزام الأعرج بسيارته حتى وصلنا المعاملتين، حيث يقع الكازينو، وكان لقائي الأول بالآنسة داني بسترس ذات العشرين ربيعا.

تحدثت داني طويلا عن مشاكلها داخل العائلة المحافظة، فبالرغم من البذخ والارستقراطية الممنهجة، فإن أحلام داني ليست كذلك، إلا أنها تأثرت بمحيطها بشكل غير مقصود ولو ببعض المواقف. أخرجت من حقيبتها زجاجة نبيذ من القياس الصغير وقدمتها لي كهدية وقالت: لقد تذكرتك وأنا أتجول في باريس عند الجادة السابعة، وهذه إحدى معروضات متجر فيني.

سألتها متشوقا: داني، أنا لم اذهب إلى الجادة السابعة من قبل..!

هنا كانت الإجابة طبقية بحتة.. إنه شارع البرلمان، بلكنه تغلب عليها اللغة الفرنسية (برلومون).

أخذت الزجاجة وقبلت يدها برقة بالغة كما توقعت هي، ولكنني نظرت مطولا إلى مستقبلي معها، لذا كان زواجي بها بعد شهرين من هذا اللقاء الهام.

الزواج كان سريا للغاية، فالخروج عن قوانين العائلة يعد من الكبائر، وقد أكدت لي أنها ستواجه مشكلة كبيرة في حال كُشف الأمر. وبالفعل استمر الأمر ستة أشهر فقط، كانت خلالها داني تفجر كل طاقاتها معي بإبداع شديد، والرقص كان من أهم طقوس التحضير لجلسة غرامية ملتهبة، لكني رغم ذلك لم اعتقد أنها ستظهر للعلن برقصتها الشهيرة هذه.. كانت تقول دائما إنني سبب حيويتها هذه.. كنت اضحك طبعا ولست مقتنعا بهذه المجاملة اللطيفة.

مر ثمانية عشر شهراً على آخر موعد غرامي مع داني إلى أن حلّ اليوم المشؤوم بعد انتشار خبر زواجي بسرعة البرق بسبب الثرثرة على وسائل التواصل، حيث توجهت فرقة من البوليس وطوقت مكان إقامتي وتم قطع كل وسائل العيش وإعلامي بأني شخص غير مرغوب فيه وسط العائلة.

عدت إلى فخرية أبحث عن شعرة معاوية التي أبقيت عليها كرمى لعيون طفلتي نجاة، وبات همي إثبات مسألة واحدة تخص ذنب الكلب الأعوج.. هل سيبقى أعوجاً؟ هي في عز النكبة وأنا منشغل بسذاجتي التاريخية.

المثنى علوش