الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نثرات من حب

سلوى عباس

كان صدى من صقيع يلفني، في وقت أخرجت المدينة نبضها الميت ورمته في وجهي.. لم أرتعد، فقد خسرت منذ الشهقة الأولى يقين الأمان، ولم يتبق لدي غير ظلال لقامة امرأة تشبه وجعي.. قلت للمرأة: من أنت، ولِمَ كل هذا الغياب؟ وكان الجواب أن رسمت على مقلتيها شمساً ودمعة وخارطة لجرح عتيق.. ثم قالت: مازلت أبحث عن قدمي في لغط الطريق.. عن درب يوصلني إلى..؟! وأحسست أنها تنزف سندياناً وبرتقالاً وياسميناً، وأن المدينة لا تزال تبتلع بنهم كل أحلامنا المشروعة، وتترك عند أسوارها أشباهنا.. وكثيراً من الحيرة والأسئلة المريرة.. فيا امرأة أخرجها دمي من عناده إلى فسحة الزمان، ماذا ستحملين للعصافير الراحلة بعيداً عن قنوط عينيك الحزينتين.. أي الأقواس ستختارين لسهامك الذابلة ودمشق لا تزال تغلق نوافذها أمام الغيوم..

<     <     <

تسارعت الأمكنة فجاة تحت قدمي.. وهوت الأدراج، وكأني صرت عصفوراً يهرب من قفص، تتالت الوجوه مسرعة من أمامي، سلمت أم لم أسلم لم أعد أذكر، لقد انزاح المكان عن صلابته واكتسب مرونة الهواء، طفق القلب منهمراً يدق الثواني ويسبق الوقت إلى سروره العائد.. الجدران طليت بالزهر والأرض فرشت أركانها بالعشب.. والسقوف لونت زرقتها ببحر، وكان الهواء.. كل الهواء ياسمينة. لم أعد أذكر أن كنت فكرت وقتها بشيء، مطلق شيء.. كانت أمامي صورتك وأنت تجتازين انحناءة الطريق بقميص السندس الهفهاف يهتز حين تخطرين بشعرك المتروك ستارة من حرير يلاهيها الهواء على كتفيك، تلتوي خصلة على أخرى، تشابكها ثم تأوي لدفء عنقك القمحي، تعود تتقلب كطفل ناعس يضايقه الحر وينعشه مزاح النسيم وهو ينعم بطمأنينة لذيذة في أرجوحته الراقصة.

<     <     <

مبنى كبير من الرخام البارد.. أدراجه من رخام.. طاولاته ناسه.. كل ما فيه من رخام بارد وواجم.. زاخر بالصمت والجمود.. يكاد يخلو من الهواء والأصوات.. شيء من موات وخواء منصوب كتمثال.. كشجرة من زجاج.. أصعد درجاً أملس وداكن.. أدلف بهواً هائلاً بفراغه المفزع.. صحيح أني أمارس هذا المرور الرديء في كل يوم، لكنه هذه المرة أكثر وحشة وبرداً، أكثر فراغا ورهبة.. أخطو اليوم تحت هذا السقف العالي، وسط كل الصمت الذي يلف المكان، سائراً نحو المصعد الذي يوصل إلى مكتبي، ذلك المكموش باستكانته.. البليد بتمدده مرتخيا كانه صنع من طين.. وكما اليتيم أجلس إلى كرسي كئيب مفرد بشكله الذي لم أكن ألحظه قبلاً، لم أكن الحظ أنه أسود.. عاري المساند.. لاشيء فيه يوحي بالدفء ولا بالطمأنينة، وكما اليتيم ألتف بعظامي أرقب جهاز الهاتف إلى يساري عساه يورد لي شيئاً من الشمس أو ينبت اخضراره عشبة.. مبنى كبير من الرخام البارد.. هكذا أراه حين لا تكونين فيه، وحين لا تزين جنباته رنة صوتك، وحين لا يصبو بلاطه الأملس بترداد وقع خطوك المعهود فيه.. فعودي، لينبت الورد في زواياه، وتشع سقوفه برائحتك، وقلبي سيصير عصفورا يطير في أنحائه يغرد اسمك، ويرف حيث تدفئ أنفاسك خلو المكان.. آن تعودين سيصير الليلك لون الأرض والزهر لون الجدران.. وأصير أحب المكان وهذا الرخام وكل شيء سيقول لك الحمد لله على السلامة.

<     <     <

حين أراك أبدو خجولاً طائشاً كورقة تهيم في واد، أبدو كنبتة تشابكت أوراقها لخضر وتلعثم صعودها في فضائها الفسيح، أحس أني أمسك نفسي عن الاتقاد وعن رغبتي بأن أعلن حبوري وسعادتي بك لكل الناس، أنوي أن أحبك كثيراً فلا أجد متسعاً من الوقت لأبوح لك بكل حبي، ولا أجد أوراقاً تكفي أعبر عن كل ما أحس، ولا لغة تناسب فتطاوع كلماتي.. أنوي دائماً أن أضمك إلى صدري فأجد ما يمسك بي يطوح ذراعي خلف ظهري، أو يزرع بيننا سوراً من الناس أو العيون.