أميمـــة الخــــش.. غيمــــة حــــب تصعــــد إلــــى الســـــماء البعيـــــدة
في صباح ربيعي من عام 2013 كان لقائي الأول بالأديبة أميمة الخش التي غادرتنا منذ أيام إلى فضاء ربما يكون أكثر رحابة ورأفة بها بعد أن تشاركت مع وطنها سورية أوجاع السرطان الذي ألّم بها والذي قاومته كثيراً، لكن القلب خانها وتوقف عن النبض لتترك لأهلها وأصدقائها بعض من ذكرياتها معهم سواء عبر تعاملها الإنساني، أم عبر الكتب الأدبية والمقالات التي ضمنتها أفكارها وقناعاتها في الأدب والحياة.
أميمة الخش امرأة وديعة وشفافة، شغفت بالكتابة منذ الصغر من خلال محاولات في الشعر والقصة القصيرة، ففي الثالثة عشرة من عمرها كتبت قصة “بائعة الياسمين” وكانت مؤمنة أنها ستكون في يوم من الأيام كاتبة لا تقل شأناً في عالم الأدب عن الأدباء الذين تقرأ لهم، وقد صدق حدسها وحققت حضورها الأدبي الذي حلمت به، حيث الكتابة تعطي معنى لحياتها، انطلاقاً من إيمانها أن الإنسان المبدع والموهوب مهمته أن يحقق بإبداعه للناس والمجتمع ما يفيدهم، وهو بذلك يغتني بما يكتب، فكانت تعتبر الكتابة تجربة تمنحها الكثير من الغبطة والسرور، لكنها بالمقابل ترهقها بسبب انسجامها مع شخصياتها وتغلغلها في أعماقها.
تطرح الأديبة الخش أفكارها بجرأة نقرؤها عبر تعابير وجمل تتضمنها رواياتها، بشكل تحافظ فيه على التوازن والوعي بحيث تخدم الجرأة هذه الطروحات بعيداً عن الابتذال، فكانت تقول: “جرأتي في طرح أفكاري مدروسة ولا أقدمها اعتباطياً، فمجتمعنا يعاني من أفكار وقيود وشروط تحجّم أفكار وسلوك المرأة والرجل على حدّ سواء وتعيق تفتح الوعي لديهما، ومهمتي ككاتبة أن أكون جريئة بتحريض الإنسان على كسر هذه القيود، والتخلص من الشروط كلها بوعي أكبر، وهذه الجرأة أعتبرها ميزة أستند إليها، لأنني لا أخاف من طرح ما أقتنع به في كتابتي وأعرف أنه يخدم المجتمع، وأن أدعو الناس إلى تمثل الوعي بعيداً عن الانحلال، ففي كتابتي أسعى إلى ترسيخ الأخلاق التي كما أرى لا تأتي من قيود المجتمع ولا من تعليم المدارس أو التعاليم الدينية، الأخلاق تأتي من الذات والفضيلة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان.
وكانت الخش تعيش هامشاً لابأس به من الحرية في الكتابة، إذ كانت ترى أن جرأة الأفكار التي تطرحها تتجلى بالتحريض على الوعي، والانفتاح على الداخل الإنساني، وهذا الموضوع لم يكن له حدود عندها، فهي مع الحرية النفسية جداً، ضمن ضوابط نشملها بعملنا على قضية التفتح الفكري، وتفتح النفس وهذا كاف –من وجهة نظرها- لأن يعرف الإنسان ماذا يفعل وكيف يتجه لأننا نكون قد أعطيناه المفتاح ليحدد ماذا يريد من الحياة، وأن يعرف كيف يختار مجتمعه، أسرته، طريقة تفكيره ويشحذ وعيه، عندها لن نخاف عليه.
عملت الراحلة في بداية حياتها بالتدريس ومن ثم تركته وافتتحت مكتبة في زمن تتراجع فيه القراءة، والكتاب يرتفع سعره، وبالنهاية هي فكرة خاسرة وغير رابحة اقتصادياً، وكانت تدافع عن هذا الاختيار بقولها: “أنا أديبة وكاتبة، وقبل كل هذا أنا إنسانة مثالية جداً، والإنسان المثالي لا يفكر بالتجارة والربح والخسارة، وأثناء فترة التدريس كنت أبذل كل نفسي لهذه المهنة، فأنا أعطي كل ما لديّ للآخر بعملي، وعندما تركت التدريس كان مشروع الكتابة والمكتبة حاضرين في ذهني، وأنا تركت التدريس عندما لم أستطع التوفيق بين التدريس الذي يأخذ الكثير من وقتي وجهدي، وبين الكتابة التي تحتاج أيضاً للكثير من الجهد، لذلك تركت التدريس وفتحت المكتبة، وكنت حينها قد أصدرت روايتي الأولى “دعوة إلى الرقص”، وكنت أعرف أن المكتبة مشروع خاسر لأنني فتحتها في زمن تردى فيه وضع القراءة والناس أخذتها تكنولوجيا العصر من تلفزيون وانترنت وغيرها بعيداً عن الكتاب الذي أخذ سعره بالارتفاع بحيث يصعب على القارئ شراؤه، لكنني بقيت متفائلة وخصصت في المكتبة قسماً لإعارة الكتب أملاً بأن يكون هناك من يرغب بالقراءة، لكن للأسف بعد اثني عشر عاماً من عمر المكتبة لم أستطع تحمل الخسارة فاضطررت لترك المكتبة”.
كانت أديبتنا تتوق في رواياتها إلى ملامسة الحقيقة المختبئة وراء كلمة، حركة، نظرة، وإلى نزع القناع عن وجه المجهول علّها تصبح أكثر معرفة وأشد وعياً وأقوى عمقاً ووضوح رؤية، لكنها لم تصل إلى تلك الحقيقة، فعملت على التعمق بالمعرفة أكثر لتكشف الغطاء عن الأمور التي تراها في هذا الوجود، فجميعنا موجودون في هذا الكوكب ونحاول أن نكتشف ونعرف.
ومن أراء الأديبة الخش أن من لا يصغي لتعاليم أحلامه كمن يتجاهل الينابيع التي تغذي حياته الواعية، ولكن إلى أي مدى كانت مصغية لحالة الحلم التي بداخلها؟ وكيف رسمت ملامح حلمها؟ ومتى كانت تهرب من الواقع إلى الحلم كانت تبرر بأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من دون حلم، بل هو يرافقه في لحظات حياته كلها، ومن ليس لديه حلم هو إنسان يفتقد الأمل والتفاؤل، وومع أن الحلم كان رفيقها الدائم لكنها لم تتركه يغرقها بلجته ويبعدها عن الواقع، لأنها إذا ركنت لأحلامها وتركتها تسيطر عليها ستنفصل عن الواقع الذي كان يهمها دائماً أن تراه، ومحاولة تغيير الواقع، فحلمها الكبير كان أن يتغير الإنسان ويعي نفسه وأن يدرك أنه يوجد بذرة إلهية في داخله لابد أن تتفتح وأن ينتبه إليها ويرعاها ويعطي التربة المناسبة لها، لأنها تتفتح عن إمكانيات جميلة تخدم التطور الإنساني.
وفي أكثر من موقع سواء في حواراتها أم في مقالاتها أشارت الخش إلى أن الحاضر هو الحقيقة الوحيدة التي ينبغي أن نحياها، لكنها كانت ترى صعوبة كبيرة في التوفيق بين الحاضر وبين ماتحمله من قيم وأفكار، فالحاضر الآن تراجعت معاييره الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والدينية، والدين بالنسبة لها كان يتمثل في الواقع الإيماني وواقع الحق الذي يجب أن يبحث عنه الإنسان، ليكون في حالة من التوازن حتى يستطيع التوفيق بين السالب والموجب، وهي كانت تحمل أخلاقيات ومبادئ مغايرة للواقع، ومع ذلك كانت تعيش لواقع وتقبله لقناعتها أن رفضها له لا يفيدها بشيء لكنها كانت تسعى إلى تغييره، وتحقيق نقلة فيه، دون أن تتركه يسيطر على أخلاقياتها، رغم العذاب الذي كانت تعانيه مما يعيشه المجتمع، مع قناعتها أن كل إنسان يتجه لقيم الخير سيدفع الثمن.
وللراحلة قناعتها بأن للأديب في مجتمعه دور يتجلى بإمساكه بيد الآخر والسير معه في طريق تفتح الوعي والحرية الداخلية، لكنها بالمقابل ترى أن هناك إشارة استفهام كبيرة حول وضع الأدباء في المجتمع، من حيث مدى انحيازهم للإغراءات وتتلاعب فيهم تيارات سواء داخلية أم خارجية، ومع كل يوم يمر كانت ترى علامات الاستفهام تكبر دون وجود أجوبة عليها.
سلوى عباس