الاقتصاد العالمي ودور البنوك المركزية
عناية ناصر
كلّ المؤشرات الاقتصادية الموثوق بها تتوقع تباطؤ الاقتصاد العالمي، إذ جاء في البيان الختامي الصادر عن قمة مجموعة العشرين في شهر حزيران الماضي في أوساكا أن “النمو لا يزال منخفضاً، والمخاطر تتصاعد”، وهي مخاطر كثيرة: الحروب التجارية، والحروب الحقيقيّة، والمخاطر الجيوسياسية، وفقاعات العقارات، وديون الحكومات المتصاعدة، وازدياد عدم المساواة مع عدم الاستقرار السياسي المرتبطة التي يخلقها.
يحتاج العالم في هذه البيئة إلى إدارة اقتصادية قوية وقادرة، نادراً ما يكون رؤساء الوزراء والرؤساء على دراية كافية بالاقتصاد، ولكن وزراء المالية والبنوك المركزية والمستشارين الاقتصاديين يجب أن يكون لهم مثل هذه الخلفية، وينبغي شغل المناصب العليا في المؤسسات المالية الدولية وفقاً لذلك. بدلاً من ذلك، يتعرّض المهنيون للهجوم، استقال وزير المالية المكسيكي فجأة متهماً رئيسه، الرئيس أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، وحكومته باتخاذ قرارات غير صائبة، وفي تركيا قام رئيس النظام رجب طيب أردوغان مؤخراً بعزل رئيس البنك المركزي لأنه رفض تخفيض أسعار الفائدة، وأعلن أردوغان أن أسعار الفائدة هي “أم الشر”. وفي الهند، خسر البنك المركزي ثلاثة حكام في ثلاث سنوات، اثنان منهم خلال أقل من عام، إذ استقال أورجيت باتيل في كانون الأول الماضي، واستقال نائب الحاكم فيرال أشاريا فجأة في حزيران الماضي بعد تحذيره في تشرين الأول الماضي من تأثير الهجمات على استقلالية البنك.
كما وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجلس الاحتياطي الاتحادي بأنه “أكثر مشاكلنا صعوبة”، ولم يبدِ أي تردّد في التعبير عن استيائه من جيروم باول، رئيس المجلس الاحتياطي الفيدرالي (الذي اختاره ترامب نفسه)، لإبقائه على أسعار الفائدة مرتفعة للغاية، وهو ما يدّعي ترامب بأنه يهدّد بخنق الاقتصاد الأمريكي. وفي الوقت نفسه، تفكر الحكومة الإيطالية في التشريعات التي ستمنحها المزيد من السلطة على تعيينات أعضاء في بنك إيطاليا.
في كل الأحوال، فإن شكوى الحكومات تتمحور حول أن البنك المركزي مستقل للغاية وأنه يتخذ قرارات تقوّض الاقتصاد. وفي بعض الحالات، يكون أساس النقد غير عقلاني. فعلى سبيل المثال، يعتقد أردوغان أن أسعار الفائدة المرتفعة تسبّب التضخم أكثر مما تكافحه. وفي حالات أخرى ، هناك العديد من الدوافع وراء ذلك: البنوك المركزية تشرف على بنوك البلاد، والمسؤولون والأفراد الفاسدون مهدّدون بالخبرات الكفوءة والقادرة. ومع ذلك، وفي معظم الحالات، يعبّر المسؤولون الحكوميون عن الغضب والسخط، لأن محافظي البنوك المركزية لا يعيرون انتباهاً لشعبية الحكومات ولا لتوقيت الانتخابات المقبلة.
هذه أمور جيدة، لكن فقط عندما يكونون محميين من التدخل السياسي، إذ يمكن للبنوك المركزية أن تتصرف بطرق تحمي اقتصاد البلد على المدى الطويل بدلاً من إدارة معينة. أنتجت القرارات السياسية تضخماً كبيراً في الستينيات والسبعينيات، ودفعت محافظي البنوك المركزية إلى الكفاح من أجل الاستقلال الحقيقي والفوز بها، كما حدث في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وكما حصل البنك المركزي الأوروبي على استقلاليته عندما أنشئ عام 1998.
قد يبدو هذا غير اعتيادي في أعقاب الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009، عندما تمّ تجنّب التراجع الكارثي من خلال الاستجابة السريعة من قبل محافظي البنوك المركزية ووزراء المالية، لكن الأزمة شوّهت كثيراً من الإطار التنظيمي السائد -وخاصة التفضيل الأنجلوسكسوني لسياسة عدم التدخل- وموجة السياسات الشعبوية التي أعقبت تشويه سمعة الخبراء الاقتصاديين. فالسياسيون الذين يزعمون أنهم يمثلون إرادة الجمهور ليسوا بحاجة إلى التكنوقراط الذين يقولون “لا”.
في اليابان، كان هناك مبدأ “اقتصاد آبي” وهو التنسيق بين الحكومة وبنك اليابان. عندما عاد إلى منصبه في نهاية عام 2012، حصل “آبي” على استقالة حاكم ماساكي شيراكاوا حتى يتمكن هاروهيكو كورودا من تولي هذا المنصب. على النقيض من سلفه، دعم كورودا برنامج التخفيف الكمي التاريخي الذي كان أحد “ركائز اقتصاد آبي الثلاث”. استمرت جهود بنك اليابان غير المسبوقة لإنعاش الاقتصاد، لكن الضغوط الانكماشية استمرت. يشعر بعض النقاد بالقلق من أن البرنامج، حتى لو كان حسن النيّة، قد أضرّ باستقلالية البنك المركزي وتركه بعدد قليل من الأدوات في حالة حدوث أزمة أخرى. يُعدّ إضعاف البنك الياباني، إلى جانب سياسات أسعار الفائدة السلبية، جزءاً من إعادة رسم أكبر للخطوط بين السياسات المالية والنقدية، وهي العملية التي دفعت البنوك المركزية إلى أدوار جديدة.
إن الحكومات التنفيذية تتولى السلطة والنفوذ الذي كانت تتمتّع به في السابق الهيئات التشريعية المنتخبة، لكن هذا لأن السياسيين كانوا في كثير من الحالات من المديرين السيئين لاقتصادياتهم الوطنية -برامج وفوائد واعدة دون التأكد من جدواها- والتي أجبرت محافظي البنوك المركزية على التدخل. في حين أن هناك أسئلة مشروعة يجب طرحها حول سلطة ونفوذ محافظي البنوك المركزية الجديدة، ومع ذلك، يجب أن يكون هؤلاء الأفراد قادرين وكفوئين. يتخذ هذا الشرط الأساسي أهمية أكبر مع تصاعد إشارات التحذير واحتمال حدوث أزمة تلوح في الأفق.