“إيميسا” رواية محاكة من التفاصيل الدقيقة والمنمنمات الحياتية
سيخطر في ذهن المتلقي عندما يقرأ عنوان رواية باسم مدينة، أن هذه المدينة هي الفضاء المكاني والزماني للرواية، والمدينة ليست مكاناً في زمان فقط، إنها بيئة حيوية كثيفة، بعلائقية معقدة يفرضها التنوع الثري للبشر الذين يعيشون فيها، وهذا ما ينطبق على رواية ايميسا، للكاتبة هلا أحمد علي، الصادرة عن دار التكوين عام 2019.
اسم المدينة الذي اختارته الكاتبة عنواناً لروايتها، هو اسم سالف لمدينة ما زالت قائمة باسم آخر، وكأنها بذلك تعمد إلى استحضار دلالات هذا الاسم، يدفعها إلى ذلك حنين لزمنه وظروفه التاريخية.
في الصفحة السابعة وقبل الدخول في صلب الرواية، تعمد الكاتبة أن تعطي موجزاً عن مضمون الرواية فتكتب “عن الحرب وويلاتها.. عن أبطالها رجالاً ونساءً.. عن الحب ومفارقاته.. عن الإنسان..”.
هكذا تُهيئنا الكاتبة للدخول في جو الرواية، وتحمّل نفسها مسؤولية أن نتفق معها أو لا نتفق حول المضمون، لكن لا بدّ أن نتفق طالما ختمت تقديمها بقولها “.. عن الإنسان).. الرواية فعلاً عن الإنسان في أطوار مختلفة: طور الحرب، طور الحب، طور الكراهية، طور الخيبة، طور النصر.. وطور الموت.
بنت الكاتبة الرواية على شكل مقاطع، كل مقطع يأخذ عنواناً هو اسم شخصية من شخوصها، وكانت قد أوردت في مقدمة الرواية مخططاً لشخصيات الرواية وفق الانتماء العائلي فبلغت ست وعشرون شخصية، موزعة في ست عائلات.
هذا العدد الكبير من الشخصيات مع الشخصيات الأخرى العرضية، مغفلة الاسم أو مسماة، قد يكون هو ما فرض على الكاتبة بنية سردية قامت على مقاطع, عنوان كل مقطع إحدى شخصيات الرواية الرئيسة، فهذا يفسح مجالاً أوسع للشخصية، لكنه في نفس الوقت جعل الشخصية تطغى على الحدث، وقلّص علائقية الأحداث بحيث ارتبط بحضور هذه الشخصية وحدود علاقاتها، كما خفّف التنامي الدرامي للرواية، حيث الخط الدرامي هو محصلة خطوط متوازية غالباً، متقاطعة حيناً. هذه الخطوط تمضي بوتيرة هادئة، إلاّ في قفزات كان لها دينامية تحريضية وتشويقية للقارئ، نذكر هنا ترك ماهر لسلاف، وما ترتب على ذلك من عقابيل، طريقة استشهاد أحمد، مثلاً.
قبل كل مقطع خصصت الكاتبة صفحة كاملة لقول من أقوال أديب أو كاتب أو مفكر، وكأنها بذلك توحي لنا بخلاصة ما قبل أن نقرا المقطع، وذلك لم يكن ضرورياً، حيث من الأفضل ترك القارئ لمتن الرواية دون أي نزوع تلقيني مرتبط بما خارجها، فالرواية كفيلة بإيصال القارئ للأثر الذي تريده إن كان جمالياً أم أخلاقيا، رغم أن الموضوع الأساسي للرواية هو الحرب الغاشمة التي تُشن على سورية، لكن الكاتبة تناولت هذه الحرب ليس كفعل عسكري، بل كعقابيل ومنعكسات حياتية بكل أبعادها، الاجتماعية والاقتصادية، الثقافية والروحية، الفيزيولوجية والنفسية، وهذا ما جعلها تتفادى مطب النزوع الحماسي بحذاقة، دون أن تخفي رأيها بما يحدث.
هذا لا يعني أنه لا حضور للحرب كجبهة عمليات في الرواية، بل هي موجودة كبيئة حيوية أيضاً بكل ما يعتمل فيها من قتال ونقاش، صداقة وحساسيات تصل حد الخصام، هذه البيئة القائمة على احتمال النهاية دائماً والتي يقف فيها الفاعلون على تخوم الحياة وشفا الشهادة.
النقاش السياسي في الرواية كان حذراً وينطلق دائماً من النيات الطيبة، وهو نقاش جاء في العموميات دون تخطي ذلك، وهذا مناف تماما لما يمكن أن تطرحه الحرب أو لما طرحته، من نقاشات تنطلق من التقسيمات العمودية لأي مجتمع يتعرض لها، خاصة هذا النوع من الحروب، ربما تعمدت الكاتبة الابتعاد عن الغوص أكثر في النقاش السياسي، كي لا تقع في فخ التنظير وبناء المواقف، وهذا ما كان سيضعف الرواية، وهي بذلك قد فعلت حسناً.
بناء الرواية على شكل مقاطع كسر خط السرد التقليدي، فالانتقال بين حدث وآخر، القائم على ما يشبه المونتاج في الأعمال الدرامية، أكسب السرد حيوية أكبر دون أن ينال ذلك من سلاسته، وهو خيار موفق وذو أثر جمالي أكبر، عملت عليه الكاتبة، أما اللغة فقد أتت مناسبة بعيدة عن التعقيد، ولا تشكل عبئاً على شخوص الرواية ولا المتلقي.
سببية الحدث الروائي أتت مقنعة حيناً ومحيرة حيناً آخر، فأفعال الشخصيات في مواقف كثيرة كانت غير متوقعة ولا قائمة على سبب منطقي أو دوافع مفهومة، أو أن تلك الدوافع كانت ضعيفة لينجم عنها أفعال ولدًت الحدث الروائي.
وطالما أن زمن الرواية هو زمن الحرب، وحدثها الرئيس هو الحرب، فإن ذلك يغدو مبرراً، لا بل هو سمة جيدة للرواية، حيث لا يمكن لتصرفاتنا زمن الحرب أن تكون نفسها زمن السلم.
سمات أغلب شخوص الرواية هي القلق والعوز التفسي، وهي شخصيات جوانية، أي أننا نتعرف عليها من سماتها النفسية، ومن تصرفاتها، وليس من صفاتها الفيزيولوجية. والشخصيات الجوانية تفرض على الكاتب الغوص في سيكولوجيا هذه الشخصيات، دون قسرها على فعل ما، أي أن يقوم بدور المحرض والكاشف ويدع الشخصية تعبر عن نفسها.
هناك تناص في مقاطع كثيرة، ورد على شكل استشهادات لجأ إليها شخوص الرواية، لدعم موقف ما، كشفاً أو تعزيزاً وربما مواساةً، قامت هذه الاستشهادات على أقوال ومقاطع شعرية وأدبية، وهي تنم عن السوية الثقافية لهذه الشخصية.
“إيميسا” رواية هادئة عن حرب مستعرة، عن الحب ومفارقاته، عن الإنسان في مختلف أطواره، رواية صيغت من التفاصيل الدقيقة، كلوحة جميلة من المنمنمات الحياتية.
مفيد عيسى أحمد