الصفحة الاولىزواياصحيفة البعث

عن “الرثاثة” والمقاومة

لأسباب عدّة، ووسط كل الأحداث اللاهبة والمتفجّرة التي تضرب منطقتنا والعالم بأسره، لا يمكن التغاضي عن خبر محاولة واشنطن عرقلة انعقاد معرض دمشق الدولي، وما تضمنه قرار “العرقلة” من مفارقة التجنيد العلني للعملاء للإبلاغ عن المشاركين بالمعرض، رغم أن أسماء وصفات وعناوين هؤلاء منشورة ومعلنة للجميع..!!.

والحال فإن محاولة “العرقلة” هذه تصلح، برمزيتها الهائلة، للدلالة على طبيعة المسار الانحداري واللاأخلاقي الذي تتبعه “الدولة الفائقة القوة”، كما تعرّفها الأدبيات السياسية العالمية، في عدوانها المستمر على دولة تتنازعها الحروب منذ نحو تسع سنوات، ليشكّل هذا “الانحدار”، وصمت “الشرعية الدولية” حياله، الدليل الأكثر بلاغة على أن قطار العالم، بحمولته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، يسير نحو العقود القادمة على سكة “الرثاثة” المثيرة للتشاؤم من مستقبل يبدو منفتحاً على خيبات ومآس كثيرة.

وبالطبع فإن هناك من يجادل، محقاً، بأن “الرثاثة” سابقة على هذا الحدث، وهي صورة عالم اليوم وصفة ساسته أيضاً، وهناك دلائل كثيرة، فأن يمسك أشخاص بمواصفات “ماكرون” و”جونسون” وأشباههما بمقاليد الأمور في دول “السبع” العظمى، اقتصادياً وسياسياً، يجعل من الطبيعي أن يكون نجم “قمتهم” المتوّج هو شخص بمواصفات “ترامب” باعتباره وجه “الرثاثة” الأبرز، والدليل الأكثر بلاغة على عمق الحفرة التي انحدر العالم إليها.

وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فلا بد من الإضاءة على صورة “الرثاثة” الإقليمية المتمثّلة بأردوغان، فالرجل الذي كان الشريك المحلي لمشروع الشرق الأوسط الجديد و”قائد الأمة الإسلامية”، كما قدّم نفسه يوماً ما، وكما اعتبره العالم الغربي أيضاً، تقتصر أحلامه، وأوهامه، في اجتماعه اليوم مع الرئيس الروسي على إقناع هذا الأخير بضرورة بقاء تركيا في نقطة مراقبة معزولة ومطوّقة، ولم يعد لوجودها المعنى الذي أرادته “سوتشي”، وإن كان هذا التمسّك يشي بنواياه الاحتلالية المفضوحة، إلا أنه يشي أيضاً بما وصل إليه حال الرجل الذي دفعه رهانه يوماً على الصلاة “فاتحاً” في “الأموي” إلى التحوّل إلى وكيل إقليمي لتزويد الإرهابيين بالسلاح والعتاد – وهو الملف الذي هدّد بكشفه أحمد داوود أوغلو بالأمس – ليجد نفسه اليوم معزولاً في “بلدة مورك” من جهة، ويتقدّم من جهة أخرى بقدميه إلى فخ الآمنة” الذي نصبه له “ترامب” قبل أي أحد آخر، وتلك صورة معبّرة عن المرتبة “الرثة” التي أنزل نفسه إليها بأوهامه المستحيلة.

لكن الصورة الأبلغ للرثاثة السياسية والأخلاقية والوطنية والقومية تتوضّح في صمت العرب المدوي عن اعتداء “إسرائيل” على ثلاث عواصم عربية في أقل من أربع وعشرين ساعة، بل شماتة بعضهم المعلنة وتهليلهم الصارخ لهذا الاعتداء، في استعادة لافتة لزمن “ملوك الطوائف” الغابر والعائد في الآن ذاته.

بيد أن الموضوعية تقتضي منا الاعتراف بأن لـ”الرثاثة” ما يبررها، باعتبارها من أدوات مسار “سلعنة” العالم المستمرة والمقصودة، وهو مسار طويل وشائك، نتيجته معروفة كما قال الكاتب الإسباني كارلوس زافون: “لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية كما تقول الصحف، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة التي ستحوّل العالم إلى نكتة سخيفة”.

لكنه ككل الأفعال الأخرى ينتج رد فعل مضاد و”مقاومة” طبيعية، بأوجهها المتعدّدة، وفي هذا الإطار يمكن قراءة فعل “المعرض” في تواتر انعقاده واتساع رقعة المشاركين به – على صغره وطرفيته – كفعل ثقافة حياة وخطوة مقاومة كبرى تندرج في مصاف خطوات الجيش السوري الواثقة ضد “جيش أردوغان” في إدلب، وفي مصاف خطوات كل مقاومة في العالم – وهو ما تعيه واشنطن جيداً، لذلك كان بيان المنع – الأمر الذي يثبت، مرة جديدة، أن المقاومة، بثقافة الحياة من جهة وبالسلاح من جهة أخرى، ليست خياراً من جملة خيارات متاحة لنا، ولأمثالنا، بل هي قدر كل من يريد الحياة.. و”المعرض” خطوة أخرى في هذا الطريق الطويل.

أحمد حسن