ســـرد مســـلّح
د. نضال الصالح
في حكاية من حكايات “ألف ليلة وليلة” أنّ ملكاً يُدعى محمد بن سبائك كاد يقايض عرشه بحكاية، وبالحكاية حفظت شهرزاد حياتها وبها طهّرت شهريار من شهوة قتل النساء. إنها فتنة التخييل التي ولدت مع الإنسان منذ وعى انفصاله عن الطبيعة حوله، والتي جعلت العربي منذ العصر الجاهلي ينام على حكاية، وينهض على حكاية.
قبل نحو مئة وثلاثة عقود، وعلى نحو يكاد يكون خاصاً بهذا الجزء من الجغرافية العربية، سورية، أبدع العرب فنّ الرواية بمعناه الحديث، فكانت “غابة” فرنسيس المراش و”درّ الصدف في غرائب الصدف”، و”فتاة” نعمان القساطلي، و”لطائف” ميخائيل الصقال، وروايات معروف الأرناؤوط علامات أولى في ذلك الفنّ الذي سرعان ما امتدّ ليشمل أجزاء أخرى من الجغرافية الإبداعية العربية.
ومن غابة المراش، إلى نهم شكيب الجابري، إلى أروى سلمى الحفار الكزبري، فسقوط الفرنك لنسيب الاختيار، والحب المحرم لوداد سكاكيني، ومن باسمة عبد السلام العجيلي إلى جيل مطاع صفدي، فعصاة صدقي إسماعيل، إلى صور حنا مينه، ثمّ من أشقياء فارس زرزور وزمن حيدر حيدر الموحش وبستان قمر كيلاني وخيول أحمد يوسف داوود وليالي هاني الراهب وممرّ ياسين رفاعية.. من ذلك كله، وسواه، وسواه كثير، أكدت الرواية السورية، عبر ما يزيد على ألف وخمسمئة عمل سرديّ، حضورها المميز، باحثة عن هوية، وممعنة في التجريب والتجديد.
وطوال القرن ونحو نصف القرن الفائتين تمثّلت هذه الرواية الواقع السوريّ بمختلف مكوّنات لوحة الفسيفساء السورية الخالبة فيه. وباستثناءات تكاد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة لم تمض إلى ما يعني نفي الآخر المختلف في أيّ من أجزاء تلك اللوحة الخالبة، بينما تبقّع المشهد الروائي السوريّ في السنوات الثماني التي مضت، ومن قبلُ قليلاً، بكتابات “روائية” لا ترى، بل لا يرى كتّابها، من تلك اللوحة سوى ما تشاء أن ترى، ولذلك بدت كتابات عوراء وخارج السياق المميز للتجربة الروائية السورية. كتابات تحكمها الأهواء لا الحقيقة، والرؤية بعين واحدة لا بعينين، كتابات محمومة بإرادات سابقة على فعل الكتابة نفسه من أجل تشظية لوحة الفسيفساء إلى أشلاء، ومعبّرة عن شهوة شديدة الطيش، والسواد، والذات المتناهية في الضآلة.
لقد ارتضت تلك الكتابات لنفسها أن تكون شريكاً فيما حاول غير قليل من الفضائيات تثبيته في الوعي السوريّ طوال السنوات التي مضت، أي تهشيم لوحة الفسيفساء السوريّة، ومحوها من الذاكرة الجمعية السوريّة، ثمّ إحلال لوحة بديلة، لا تعدّد، ولا تنوّع، ولا غنى، مميّزاً لها وفيها، كما كانت سورية طوال تاريخها، وكما شاء السوريون أن يكونوا طوال تاريخهم أيضاً.
ثماني سنوات والمشهد الروائي السوريّ يزداد تخمة يوماً بعد آخر بأعمال “روائية” يمكن وصفها بأسلحة الدمار الشامل التي تتجاوز استهدافها البشر مادةً إلى البشر معنى، أي إلى الوعي الذي يميز الإنسان من سواه من الكائنات التي تشترك معه في النسبة إلى عالم الأحياء، ويتعرّض لما يمكن وصفه بسرد روائي مسلّح، سرد يتتابع عصفاً بالوعي السوريّ. سرد يغتال الحقيقة، وينطوي تحت عباءة الكتابة القاتلة لا الكتابة الخالقة.