تحقيقاتصحيفة البعث

تكشف الحالة المعيشية فجوة “جيني”.. هشاشة في توزيع الدخل.. ومؤشرات الفقر تعكس غياب العدالة الاقتصادية

يقول المشهد بنزول أحد الأشخاص من سيارته الفخمة بغرض إصلاحها في الصناعية، وقد كانت تكلفة الإصلاح 300 ألف ليرة، فما كان منه إلا أن سحب ألف دولار من جيبه ومضى في طريقه، انتهى المشهد، وبدأت التحريات التي قالت فيما بعد إن بطل المشهد كان حتى فترة ليست ببعيدة عاملاً عادياً “على باب الله” كما يقال، إلا أن تصرفه هذا كان إشارة واضحة إلى ملاءته المالية، وقدرته على التعامل مع مواقف الإصلاح الضخمة تلك بمرونة دون الخوف من تداعياتها على اقتصاد جيبه أو خزينته، وهو المصطلح الأقرب لحاله، إلا أن هذه الحالة لا يمكن تعميمها، وهي ليست كذلك بالنسبة لجموع كبيرة من أبناء المجتمع الذي يترنح تحت وطأة انخفاض القوة الشرائية إثر ارتفاع الأسعار وتضخمها، وبين الثراء الفاحش والفقر الكبير انقسم المجتمع، وحالة من التفاوت الصارخ داخل طبقات المجتمع برزت، وبرز أيضاً ما يسمى معامل جيني.

قد يكون الدخول في هذا المصطلح أمراً معقداً جداً، ويحتاج إلى مختصين وخبراء للحديث عنه، ولكنه سيكون الباب الذي ندخل منه إلى الواقع الاقتصادي للأسر، وحالة الفقر التي تعاني منها، وبروز انقسام واضح في المجتمع بين فقراء وهم غالبية مطلقة، وأغنياء وهم قلة قليلة.

جيني المضطرب

بعيداً عن المصطلحات الاقتصادية، والخوض في تفاصيلها ومعطياتها وخطوطها البيانية التي تعاني انحداراً شديداً لجهة مستوى الدخول، وتبايناً كبيراً لجهة توزيع تلك الدخول، يبرز مصطلح جيني كأحد توصيفات الحالة المعيشية التي وصل إليها مجتمعنا، ولكن ماذا حدث؟ ولماذا هذا الانهيار في الطبقة الوسطى التي كانت تشكّل ستاراً وهمياً، أو رابطاً بين طبقتي الأغنياء والفقراء، وقد تكون حفظاً لماء وجه المجتمع كونها كانت تشكّل نسبة لابأس بها، وعلى عاتقها يقع النهوض بالطبقة الأدنى، ونقصد طبقة الفقراء، إلا أن الأزمة وانعكاسها على الواقع الاقتصادي والمعيشي أدت إلى انهيار الطبقة الوسطى، وانضمامها لطبقة الفقراء، لتبرز فجوة كبيرة في المجتمع، وهي الفجوة ذاتها في معامل جيني.

معامل جيني هو أحد أشهر المؤشرات المستخدمة في قياس التفاوت في توزيع الدخل، وأكثرها انتشاراً نظراً لوضوح فكرته، وبساطة حسابه، ويقيس عدالة توزيع الدخل، وفي الحالة العادية ولكي يكون المؤشر سليماً يجب أن تكون المعادلة وفق ما يلي: 2% من السكان يحصلون على 20% من الدخل، و40% من السكان يحصلون على 40% من الدخل، و80% من السكان يحصلون على 80% من الدخل، وبالتأكيد فإن كل السكان يحصلون على كل الدخل، إلا أن هذه الحالة النظرية أبعد ما تكون عن الممارسات الواقعية التي تميل إلى الابتعاد قليلاً أو كثيراً عن خط العدالة المطلقة، ومن ثم فإننا كلما ابتعدنا عن خط العدالة المطلقة زادت درجة عدم العدالة في توزيع الدخل إلى أن نصل إلى عدم العدالة المطلقة، وهي الحالة التي يحصل فيها شخص واحد فقط على كل الدخل في الدولة.

يقول هنا ناجي حذيفة، مدير مكتب الإحصاء في السويداء: إن معامل جيني متعلق بالفجوة بين المجموعات العشرية للسكان فيما يتعلق بالإنفاق وتوزيع الدخل، أي لو قسمنا سكان المحافظة إلى مجموعات عشرية، وشرحنا إنفاقهم ودخولهم الشهرية نجد أن الفجوة بين المجموعات الوسطية متشابهة، ولكن نجد أن 10% من السكان ينفقون ستة أضعاف المجموعة التي تقع خلفهم، وهذا يعني أن توزيع الدخل يعاني من هشاشة كبيرة، وهذه مشكلة تعاني منها معظم البلدان النامية، وكلما اقترب معامل جيني من رقم واحد هذا يعني أن هناك عدالة في التوزيع، وكلما ابتعد يشير إلى أن هناك عدم عدالة.

ويضيف حذيفة: في محافظة السويداء تشير الأرقام غير الرسمية إلى أن معامل جيني هو 0,37 حسب المجموعات العشرية، وهذا يعني تفاوتاً في توزيع الدخل، علماً أن المجموعات العشرية تقسم حسب الدخل، وإذا ما عكسنا الدخل على الإنفاق نجد أن هناك مجموعة تنفق ستة أضعاف المجموعة التي قبلها.

فجوة كبيرة

وبالعودة إلى الحالة الوصفية للمجتمع نجد تراجعاً واضحاً لما يسمى الطبقة الوسطى التي كانت سائدة، وهذا بدوره يعكس حالة من التراجع داخل المجتمع لجهة الوضع الاقتصادي والمعيشي.

منصور غنام، مدير التخطيط في المحافظة أوضح أن الدخول في هذا الموضوع معقد جداً، ويحتاج إلى معطيات وبيانات، والقيام بعمليات تحليلها بشكل تخصصي وعبر لجان بحثية للوصول إلى مؤشر جيني، وأهم تلك المعطيات هي الدخل، والناتج الوطني، وحصة الفرد منه، وبالحديث عن الناتج الوطني في القطر، أو المحافظة، أو حتى داخل الوحدات الإدارية، نجد أن هناك فجوة في توزيع ما يسمى الكعكة الوطنية، وحسب القراءة للواقع والمشاهدة له، وعبر عينات عشوائية في أي مجتمع سكاني، نجد أن هناك فجوة كبيرة، حيث تراجعت الطبقة الوسطى بشكل كبير، ودخولها في المنطقة الفقيرة، وهناك مجموعة من الأشخاص تستأثر بحصة كبيرة من الناتج الوطني، وهنا يلعب عامل الفساد دوراً في ذلك، حيث نجد أن الفجوة وصلت حالياً إلى نسب كبيرة، وتشير إلى عدم عدالة التوزيع، وهذا ساهم بانعدام أو اختفاء الطبقة الوسطى، وتحولها إلى الطبقة الفقيرة.

وبيّن غنام أن مكافحة الفساد هي أولى الخطوات لتقليص هذه الفجوة عبر تحقيق عدالة أكثر في توزيع الدخل، وتحديد الأولويات لتحقيق هذه العدالة بشكل يضمن تقليص الفجوة، وذلك من خلال مكافحة التهرب الضريبي، وسن قوانين تحقق عدالة التوزيع للدخول والثروة، وتشجيع الاستثمار بشكل يضمن دخول ثروة تلك الطبقة باتجاه تأمين فرص العمل بدلاً من الذهاب باتجاه طرق غير مشروعة، ومنها تبييض الأموال وغسلها وتهريبها.

 

انقسام واضح

ولا شك أن وجود هذه الفجوة داخل المجتمع يساهم في حدوث مشاكل اجتماعية، حيث زادت حالات الطلاق، والانحراف، وتوظيف الأموال باتجاه الإسراف غير المنطقي، وغير المشروع، وهذا يشكّل حالة خلل اجتماعي، ولذلك لابد من إيجاد حلول بيّنها المهندس فراس البعيني، مدير مركز دعم القرار في محافظة السويداء، ومهتم بالشؤون الاقتصادية فقال: إن انقسام المجتمع إلى طبقتين أصبح واضحاً وملموساً، حيث هناك الغنى الفاحش، أو الفقر المدقع، ولا طبقة وسطى بينهما كما كان سابقاً، أما سبب الغنى الفاحش، حسب البعيني، فهو الربح غير المشروع الذي يقوم به بعض التجار، وكذلك الأعمال المشبوهة كتجارة السلاح والمخدرات التي برزت خلال الأزمة، وهناك سبب آخر وهو فرق العملة، حيث تعتمد محافظة السويداء بشكل كبيرعلى المغتربين اقتصادياً، وفرق العملة ساهم ببروز طبقة أغنياء، ففارق السعر بين تصريف العملة الأجنبية الذي ارتفع أكثر من عشرة أضعاف، وسعر الخدمات التي ارتفعت حوالي ستة أضعاف فقط، ما جعل هناك فجوة انعكست أرباحاً إضافية عند هؤلاء، ولتقليص هذه الفجوة بيّن البعيني أهمية إلغاء السبب وهو التجارة غير المشروعة، والحفاظ على قيمة الليرة، وقد يكون رفع الأجور حلاً في حال ارتفعت بنسب كبيرة لضعف أو ضعفين، والأهم هو تفعيل دور القطاع الخاص ليأخذ دوره بشكل كامل، ودراسة حاجة السوق للقيام بعمليات التخطيط بشكل سليم

أما بالنسبة للفقراء فهم مقسومون لقسمين، فهناك فقراء غير قادرين على العمل، وهؤلاء على الجمعيات الخيرية أن تلعب دوراً في مساعدتهم والأخذ بيدهم، وهناك فقراء قادرون على العمل، ولا يعملون، وتوجد لدينا فرص عمل قد تكون موسمية، إلا أنها موزعة على كامل العام، وهي تساهم في البقاء على خط الفقر، وعدم الهبوط إلى مستوى الفقر المدقع، وهي حالة قليلة جداً في المحافظة، حيث لا يوجد لدينا مواطن لا يجد “أكله وشربه”، ولكن تختلف نوعية الغذاء وجودته، ويبقى المهم هو حصر المشكلة، فوجود هذه الفجوة داخل المجتمع يساهم في حدوث مشاكل اجتماعية، حيث زادت حالات الطلاق، والانحراف، وتوظيف الأموال باتجاه الإسراف غير المنطقي وغير المشروع، وهذا يشكّل حالة خلل اجتماعي، ولابد من وجود بنك معلومات لمعرفة كيفية التدخل، سواء عبر الجمعيات الخيرية، أو التنموية، أما المشكلة الأهم فهي ارتفاع نسبة الكهولة، وهذا بحد ذاته يشكّل مصدر قلق ديمغرافياً في المحافظة.

تحدي العدالة

إذاً التحدي الرئيسي الذي يواجه مجتمعنا اليوم هو كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويبدو أن مكافحة الفساد، ومحاربة الإتجار غير المشروع، وجشع التجار، بوابة مهمة للوصول إلى تحقيق تلك العدالة من بوابة التوزيع العادل للمقدرات الوطنية الموجودة، وعدالة التوزيع ليست بالضرورة أن تكون فيها المساواة، بل لابد من وجود أنظمة وقوانين تساهم بتحقيق وصول الدعم لمستحقيه، وهذا يكون أولى خطوات تقليص فجوة “جيني”.

رفعت الديك