الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مرآة الأحوال

 

 

د. نضال الصالح

دفعَ الجليلُ بكتابٍ كانَ يقرأ فيه إليّ، وقال: “اقرأ ما وضعتُ لكَ تحته خطوطاً، واجهرْ لأسمعك”، فقرأتُ: “أمّا أوّلُ رجلٍ عربيّ الأصلِ أصدرَ باسمه صحيفةً عربيّة، واستحقّ دون سواه هذه الكرامةَ الجليلةَ، فهو رزقُ الله حسّون الحلبيّ منشئ مرآة الأحوال سنة 1855 في عاصمة آل عثمان. ولأجل ذلك يمكننا بكلّ صواب أن نسمّيه إمامَ النهضة الصحافية عندنا بلا مراء، بل جدّ الصحافيين وزعيمهم على الإطلاق، فاقتفى أثرَه بعضُ أرباب العلم والفضل من أبناء سورية”.
وما إنْ أتيتُ على آخر حرف من آخر كلمة ممّا قرأتُ، وما كدتُ أطوي الكتابَ، حتى أخذ يصدحُ بالكلمة بما يشبهُ الغناء، وكانَ يطلقُ عينيه نحو غيمة تظلّلنا. أومأ لي نحوها، فقلتُ: “أرى يا معلّمُ”. قال: “ليسَ بالعينين”. ثمّ أخرجَ من حيثُ لم أرَ كتاباً آخر، وقال، وهو يفتح الكتاب على صفحة بعينها: “اقرأ”، فقرأتُ:
“هو رزقُ الله بن نعمة الله حسّون، ولدَ في حلب سنة 1835، وتوفي في لندن نحو سنة 1880. كاتبٌ تصرّفَ في الشعر والإنشاء، كما يتصرّفُ العبيدُ بالأمراء، أطالَ وأوجزَ، واختصر وأعجزَ، شنّ على الحكومة التركية بقلمه غارة شعواء، وقضى بعيداً عن بلاده وفي نفسه منها أشياء. درسَ في مدرسة دير بزمار بلبنان، ثمّ قصد القسطنطينية واتصل بفؤاد باشا الوزير المشهور إلى أن جاء هذا سورية سنة 1860 في الخطْب المعروف بحادثة الشام، فاصطحبه وقلّده ترجمة أوامره فيها إلى العربية، ثمّ عاد معه إلى القسطنطينية، فقلّده نظارة مكْس الدخان، فاتُهم بنقص فاحش في مال خزينتها، ووشيَ به، فسُجنَ، ثمّ هرب من السجن، وبعد أن قصدَ كثيراً من البلاد ألقى عصا الترحال في مدينة لندن.. ثمّ لمّا يئس من العوْد إلى بلاده أعادَ نشر جريدته “مرآة الأحوال”، وكان يكتبها بخطّه الحسَن، ويطبعها على الحجر على ورق صقيل جداً، ثمّ يبعثُ بها في البريد في غُلُف مختومة إلى أطراف الأرض، وفيها من الفصول الشائقة ومقالات الانتقاد على سياسة الحكومة العثمانية يومئذ والتنديد برجالها والتشنيع على جور عمّالها وطرق ارتكابهم في مظالمهم ما أيقظَ الجفونَ وحرّك السكون، ولم يزل ينشرها حتى أدركته المنون”.
وكنتُ أستضيءُ بوجه الجليل وهو طاعن في الصمت، ثمّ، ما بين صدى صمت وتوأمه، أومضتْ عيناه بابتسامة باذخة الجلال، وقال: “هي أوّلُ كلّ بهيّ”، قلتُ: “مَن يا معلّمُ؟”، فقال: “اصغِ”، فأصغيتُ:
“سينُها السرُّ والسّحْرُ والسّبْكُ والسّمْتُ والسَّنَدُ والسؤددُ والسَلْمُ وسينُها السيفُ والسُّمُ والسّعيرُ، وواوها الورْدُ والوعْدُ والوصْلُ والومْضُ والوضوءُ، وواوها الوغى والوطيسُ والوطْأُ والويْلُ، وراؤها الروحُ والريحانُ والرسالاتُ، وراؤها الرحى والردْعُ والرعْدُ….”، وفيما أنا مفتونٌ بموسيقى الحروف وهسهسة المعنى سمعتُ الجليلَ يقول: “فهل عرفتَ السرَّ؟”، وقبل أن يتحرّرَ لساني من دهشةٍ عقدته وأنا أصغي إلى الصوت الذي كان يتهاطلُ من روح الغيمة، تابعَ: “هيَ أوّلُ كلّ بهيّ، وهم أوّل كلّ سواد”، قلتُ: “زدْني يا معلّمُ”، قال: “فامضِ إذن إلى حكاية صاحب المرآة مع آل عثمان الذين وصفهم، قبل ما يزيد على مئة عام، بالذئاب، ولا تنسَ.. ولا تنسَوا”.