الأردن أمام خيارين المشكلة ليس تعداد تشكيل الحكومات وإنما في النهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي
محمد شريف الجيوسي
تتحدث مصادر وتحليلات أردنية داخلية عن اختلاف عميق داخل الحكومة الأردنية حول الملف الاقتصادي .
فقد كشف القرار الرسمي الأردني بمنع ما أطلق عليه تهريب الدخان والمخدرات والسلاح ، والذي أصاب ” بحارة الرمثا ” في مقتل، بعد سنوات من الخراب الذي حل بهم ، جراء إغلاق الحدود البرية مع سورية ـ كشف عن عمق الأزمة المعيشية لقطاعات واسعة من الشعب الأردني ، حيث تتوقف معيشة الرماثنة بخاصة على شراء الدخان من سورية بسعر “ملائم” وبيعه في الأردن بـ3 أو 4 أضعاف سعره ، وهو الدخان المصنوع في الأردن والمهرب إلى سورية ثم المهرب ثانية إلى الأردن !؟ إضافة إلى استيراد الخضار والفواكة والمواد الغذائية والمنسوجات والأدوية.. الخ، من المنتجات والصناعات السورية وغيرها .
كما كشف القرار أن البحارة الرماثنة ليسوا إلا مجرد ” مهربين ” صغار ليسوا أصحاب ملايين ، وليست تلك غايتهم ، وإنما العيش مستورين ، وأن التهريب بحسب كثيرين محمي وعلى مستويات عالية ، حيث ورد في بيان أصدرته تنسيقية البحارة معلومات خطيرة تكشف جوانب مستمرة من التهريب ” الراقي ” المستوى والمتعدد الأنواع الذي لا علاقة له بالبحارة ، والذي يفوق ما تورط به مطيع على حد بيان وتصريحات لهم !؟
حدث هذا بالتزامن مع خلافات بين بعض الفريق الحكومي المعني بالشؤون الاقتصادية ومعه وزراء آخرين، وبين رئيس الحكومة، د. الرزاز، ومعه البعض ، فيما تفقد الحكومة الاردنية كما برى مراقبون ( هامش المناورة جراء التخبط والارتجال في قيادة المطبخ الاقتصادي بخاصة بعد إعلان فشل الآثار الايجابية للبرنامج الضريبي في زيادة عائدات الضريبة ).
وتقول مصادر أن معظم الفريق الاقتصادي الذي يقوده نائب رئيس الوزراء رجائي المعشر ، يرى ضرورة البقاء في اقرب مسافة ممكنة من صندوق النقد الدولي والتحدث معه باشتراطاته الضريبية وضرورة الاستمرار في برنامج ” الاصلاحات الاقتصادية” والعمل على خطوات أكثر جرأة وإكمال مشوار “التخلي عن الدعم” وبالتالي تعزيز الخزينة بتحرير اسعار الخبز. ويقول أصحاب هذا الاتجاه إن الاتصالات ستبدأ قريبا مع المؤسسات المالية الدولية لتعزيز ما يسمونه النمو الاقتصادي بدلا من التركيز على زيادة واردات الضريبة في الخزينة.
رئيس الحكومة د. عمر الرزاز يختلف مع الفريق الإقتصادي ، في الوقت الذي يصر وزير المالية عز الدين كناكريه على تجنب أي رأي أو موقف يجعله مشاركا في فرض وترسيم “السياسات” وعلى أساس أن صلاحياته وواجباته تقتصر على الترتيب للأرقام والحفاظ على وضع مثالي للخزينة أو اقل سوءا.. بقية الوزراء على هامش الملف الاقتصادي لا دور لهم كما يبدو .
وتقول أوساط برلمانية وإعلامية بأن الرزاز ” يدفع بالمعشر إلى الواجهة لتحمل مسؤولية فشل برنامج التصعيد الضريبي ومواجهة التداعيات، فقد ألحق مثلاً ملف الجمارك بالمعشر، فيما غاب الرزاز عنه تماماً وأجرى محادثات ” معمقة ” مع غرفتي التجارة والصناعة ، وأقر خلال لقائه بتحمل أهالي الرمثا الكثير جراء إغلاق الحدود مع سورية .
مؤيدو برنامج الفريق الاقتصادي صرحوا امام لجان برلمانية أن “بعض الأخطاء في التقديرات” والمفاجآت يمكن أن تحصل بصرف النظر عن الدراسات والتحليل والتعمق ، وأن النتائج الإيجابية تحتاج لسنوات حتى تظهر ـ لتبرير التخبط الذي وصل إليه الطاقم الاقتصادي وانخفاض الواردات الضريبة بمقدار 200 مليون دينار في الأشهر الـ 6 الأولى من العام الحالي 2019،رغم الحسابات الحكومية القائلة بأنها ستزيد وليس العكس، ويرى خبراء اقتصاديون أن الانخفاض يعود لسببين انخفاض قدرة الدينار الشرائية من جهة وجراء تجنب المواطن الأردني الاستهلاك الإنفاقي لتراجع القدرة الشرائية من جهة أخرى .
التجاذب يزيد وينمو داخل الفريق الاقتصادي وتداعيات الأزمة الاقتصادية بدأت تؤثر في الشارع وبات الأردن بحاجة ل ( وصفات مختلفة ) لا علاقة لها بالطاقم الحالي ولا بكل النهج الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتبع منذ تأسيس الإمارة ، ويزيد التوتر في هذا المربع حتى وصل وحسب مصدر مطلع جدا إلى صيغة لا يمكن معالجتها إلا على الأقل بـ” تعديل وزاري”.
ورغم الاختلاف داخل الحكومة حول الملف الاقتصادي ورغم محاولة الرزاز إيجاد هوامش تنسيق مع القطاع الاقتصادي بحضور وزراء المالية عزالدين كناكرية، والصناعة والتجارة والتموين طارق الحموري، والطاقة والثروة المعدنية هالة زواتي، والعمل نضال بطاينة.. فإنه يعتقد أن الأردن قادر على تجاوز الصعاب والتحديات الاقتصادية التي تواجهه في هذه المرحلة، لكنه دعا الحكومة لمراجعة وإعادة النظر بالتشريعات والقوانين ومعايير المواصفات والإجراءات بما يخدم القطاع التجاري الذي يشكل عصباً مهما في الاقتصاد الوطني ، وهو إقرار مهذب خجول بالفشل لكنه يشي بوجود ” وجهات نظر مختلفة حول الملف الاقتصادي ” ومشيرا بجملة حمّالة أوجه بأن الحكومة “تعمل ضمن نهج الاصلاح الهيكلي للاقتصاد الأردني ( يلاحظ أن أياً من الوزراء الذين يختلف الرزاز معهم في الملف الاقتصادي لم يحضر الاجتماع ما يؤشر على عمق الأزمة )
وقال الرزاز إن منظومة الضريبة لن تعطي نتائج فورية وتتطلب الانتظار حتى نهاية العام لتبرز مؤشرات يمكن من خلالها التقييم ( ولكن ليس لسنوات كما أشارت الوزيرة غنيمات والفريق الاقتصادي برئاسة المعشر) ما يوضح أن للرزاز وجهة نظر مختلفة ، فنهاية العام تكون بعد 4 أشهر وليس بعد سنوات .
ورأى أن المشكلة تكمن بالاعتماد على الضرائب غير المباشرة، فيما سياسة الحكومة تقوم بالاعتماد على الضرائب المباشرة.
وقال نائل الكباريتي رئيس اتحاد الغرف التجارية أن رؤساء الغرف التجارية طرحوا بعض التحديات والمعيقات لإيجاد حلول لزيادة وتيرة النمو الاقتصادي والحركة التجارية.
وبين أن أبرز المعوقات التي جرى تناولها تتعلق بقانون الجمارك والمواصفات والمقاييس وقضية الرقابة المتعددة على المنشآت التجارية وتطبيق قانون الأبنية والمشاكل التي تواجه بعض المحافظات خاصة فيما يتعلق بالمناطق التنموية.
وطرح أعضاء مجلس إدارة غرفة تجارة الأردن ملاحظات تتصل بمنظومة النقل بجميع أشكاله والرسوم الجمركية والضريبية المفروضة على قطاع مستحضرات التجميل ونظام الابنية ورسوم النفايات واللوحات الإعلانية والانتساب لغرف التجارة، والتجارة الإلكترونية وتعليمات البيع الإلكتروني وقانون نقابة المحامين.
وأشاروا، إلى إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا وايقاف الاستيراد من سورية وفحوصات الغذاء والدواء والأثر الاجتماعي والاقتصادي للعديد من التشريعات والتعليمات والقرارات الحكومية والقوانين الاقتصادية وبخاصة المالكين والمستأجرين وحبس المدين.
كما لفتوا إلى قضايا تتعلق بالتحويلات المالية والتحديات التي تواجه القطاع الزراعي، وبخاصة الرسوم المفروضة على مدخلات الانتاج وحالة الركود التجاري وضعف الحركة الشرائية وتعقيدات شطب السجل التجاري والميناء البري والمنطقة التنموية في معان وتخفيض كلف التشغيل وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
وأشاروا أيضا إلى العمالة الوافدة ومنح تصاريح عمل موسمية وتفعيل برنامج خدمة وطن لتشغيل الأيدي العاملة الأردنية وإعفاء الغذاء من الرسوم والضرائب وتحفيز الاقتصاد الوطني وطول مدة فحص الاجهزة الكهربائة وارتفاع رسوم فحصها وتراكم المعاملات وتأخير ظهور النتائج ووضع حل شمولي لقطاع السياحة وحماية السياحة العلاجية وتطوير منظومة النقل السياحي وإعادة تبعيته لوزارة السياحة.
واعتبروا التغييرات الكثيرة خلال السنوات الماضية على المنظومة الضريبية أرهقت القطاع التجاري، بالإضافة لشح السيولة بالسوق المحلية وارتفاع الفوائد البنكية، وصرف تعويضات تجار وسط العاصمة الذين تضرروا جراء السيول والفياضانات خلال موسم الشتاء.
إن ما لم يتطرق إليه الفريق الاقتصادي ولا رئيس الحكومة وما بينهما وما لم تطرحه كل الحكومات الأردنية في العقود الماضية ، أن تدهور الأحوال الاقتصادية وازدياد المديونية المضطرد والضنك المعيشي المتصاعد الذي بات المواطن يرزح تحت أعبائه ، يتعلق بالنهج السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتبع في البلد ، والذي يخدم مصالح شرائح صغيرة جداً من المجتمع الأردني تتوارث إلى حد بعيد الوزارات والمواقع الرئيسة والمكتسبات ، والكثير من هذه الشرائح مرتبطة مصالحها بالخارج وبالتبعية لأمريكا وبكل ما يتصل بها من دول وكيانات ومجاميع.
وثمة قوى أخرى هي خارج الحكم بالمعنى الحرفي لكنها موجودة تخترق بقوة المؤسسات ومنابر المساجد ترتبط بمكتب الإرشاد العالمي الإخواني الذي انبثقت عنه القاعدة وتفريخاتها المعروفة بالإسم ، أو بالوهابية التي زرعت الفكر التكفيري وأسهمت في التمويل والتدريب والتسليح واستجلاب الإرهابيين وفي غسل أدمغة الشباب وزجهم الى ساحات الموت في غير ساحة عربية وغير عربية ، وشترت بأموال الأمة ضمائر بعض المشايخ والخطباء والشباب المتعلم منهم والعاطل عن العمل .. وللطرفين مؤسساتهم “التعليمية” والاجتماعية والمالية المقتدرة على فعل الكثير في المجتمع ودفعه الوجهة التي تريد على ما بينهما من تباينات ظاهرة ومغطاة .
الشرائح الحاكمة بقوة النفوذ والسلطة وتوارث المناصب وارتباطها بالخارج الدولي الإمبريالي هي وراء الفساد المتولد من رحم التبعية السياسية ، وأما الشرائح الحاكمة اجتماعياً بدعاوى الدين الحنيف تزرع في المجتمع التعصب والعقول المغلقة والتكفير والإنفصام عن المصالح الوطنية فيسود الفكر والعداء الطائفي والمذهبي والإثني بدلا عن المواطنة والوحدة الوطنية والبناء الجمعي ، وبهذه العقليات يجد الفساد ضالة جديدة ، حيث لن يتعامل أصحاب هذه التوجهات مع الآخر على الكفاءة والمواطنة وإنما على أسس إثنية وطائفية ومذهبية ، وسيجري النبش في الماضويات والجهويات والمناطقيات وكل ما يفرق .
نحن معنيون بمراجعات عميقة بوضع حد لتوارث المناصب والوزارات والنيابة ، وانتهاج قيم وطنية ديمقراطية مدنية عادلة أساسها الكفاءة غير المرتبطة بالإمبريالية ومن يرتبط بها ، ووضع حد لتمدد الأفكار والممارسات المغلقة تحت مسميات دينية مخادعة كاذبة جل أهدافها تمزيق النسج الوطنية للبلد على أسس مغرقة بالتخلف ، كما زجه في الصراعات الإقليمية والأزمات التي تخلقت في أوكار الوهابية والإخوانجية وتفريخاتهما الإرهابية .
إن أجرينا تلك المراجعات وخلصنا البلد من الشرائح الحاكمة المتسلطة التابعة للإمبريالية ، وتجنيبه انزلاقات إجتماعية خطيرة بلبوسات دينية طائفية مذهبية وإثنية تعمل على انزلاقه نحو الفتن وحرف البوصلة، وإقامة إقامة حكومات كفؤة حقيقية تمتلك ولايتها وقادرة على استثمار طاقات البلد بشكل فعال وحقيقي وعادل ، (وبالمناسبة فإن الأردن يمتلك طاقات وإمكانات كبيرة لم تُستثمر بعد ) وما أستثمر منها لم يستثمر بالوجهة الصحيحة أو استثمر وبيعت أصوله المالية بـ “تراب الفلوس” تحت ضغط البنك وصندوق النقد الدوللين.
نحن أمام خيارين صعبين ، أحدهما يقود إلى مزيد من الأزمات وربما التفكك والسقوط، والآخر خيار يجنب البلد الأزمات ويعيد إليه لحمته الوطنية الراسخة بعيدا عن مؤسسات رأس المال العالمي من جهة ، وبعيدا عن أوكار التخلف التجهيل والتكفير والتفتيت المجتمعي بدعاوات دينية الدين منها براء من جهة أخرى . فأيهما نختار؟