جونسون المسكون بروح ملوك بريطانيا
ترجمة: عناية ناصر
عن موقع ناشيونال ريفيو 13/9/2019
كان رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون متعطشاً لترجمة تصويت الرأي العام البريطاني في حزيران عام 2016 لمغادرة الاتحاد الأوروبي، لكن القضية الحقيقيّة أقدم وأهمّ بكثير مما إذا كان 52 بالمائة من البريطانيين قد أصبحوا في النهاية يشعرون بالضيق من الاتحاد الأوروبي الذي يزداد معاداة للديمقراطية وتسيطر عليه ألمانيا، وذلك لأن انكلترا الجزيرة، لم تندمج أبداً في الثقافة والتقاليد الأوروبية تاريخياً وسياسياً ولغوياً.
تدور قصة بريطانيا حول الصراع مع فرنسا وألمانيا وإسبانيا منذ القدم، إذ كفل تفوق البحرية الملكية البريطانية بمنع الديكتاتوريين الأوروبيين من نابليون إلى هتلر من وضع موطئ قدم لهم على الأرض البريطانية، وحينها طمأن الأميرال البريطاني جون جيرفيس رؤساءه في عام 1801 وسط شائعات عن غزو نابليون الوشيك قائلاً: “أنا لا أقول يا أمراء، إن الفرنسيين لن يحضروا، بل أقول فقط إنهم لن يأتوا عن طريق البحر، فالقوة البحرية لبريطانيا والحكومة البرلمانية تميّزها عن جيرانها الأوروبيين، وليس فقط بسبب عزلتها الجغرافية”.
شدّد التنوير البريطاني والاسكتلندي في القرن الثامن عشر لإدموند بيرك، وديفيد هيوم، وجون لوك، وآدم سميث على الفردية والحرية والتحرّر أكثر بكثير مما شدّدوا على نتائج المساواة التي فرضتها الحكومة والتي كان يفضّلها مفكرو التنوير الفرنسي مثل جان جاك روسو. كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن الثورة الأمريكية قامت على فكرة الحرية الفردية، على عكس الجهود العنيفة التي بذلتها الثورة الفرنسية في وقت لاحق لإعادة توزيع الدخل وحرمان “أعداء الشعب” من حقوقهم وحتى حياتهم.
أنتجت فرنسا نابليون، وإيطاليا موسوليني، كما قدّمت ألمانيا هتلر للعالم، لكن من الصعب أن نجد في التاريخ البريطاني شخصية ديكتاتورية مماثلة سعت إلى الهيمنة القارية، وهذا لا يعني أن البريطانيين قديسون، إذ سيطروا على إمبراطوريتهم العالمية بالإقناع والقوة الوحشية.
لكن حتى الامبراطورية البريطانية كانت من نوع مختلف عن الاستعمار البلجيكي أو الفرنسي أو الألماني أو البرتغالي أو الإسباني، حيث كانت المستعمرات البريطانية السابقة، أمريكا، أستراليا، كندا، الهند ونيوزيلندا ديمقراطية لفترة طويلة.
خسر البريطانيون في الحرب العالمية الأولى ما يقرب من مليون جندي كانوا يحاولون إنقاذ فرنسا وبلجيكا. وفي الحرب العالمية الثانية، كانت إنكلترا هي الدولة الوحيدة التي قاتلت محور الحرب بأكمله (من أيلول 1939 إلى أيلول 1945)، وهي القوة الحليفة الوحيدة التي حاربت المحور بمفردها (لمدة عام تقريباً من منتصف عام 1940 إلى منتصف 1941)، وقوة الحلفاء الرئيسية الوحيدة التي دخلت الحرب دون أن تتعرّض للهجوم المباشر، حيث جاءت لمساعدة حليفتها بولندا.
تاريخياً، تطلّعت بريطانيا إلى البحار والعالم الجديد باتجاه أوروبا الغربية ولم تهتمّ بشرقها، وبهذا المعنى فإن لدى الكندي أو الأمريكي قاسماً مشتركاً مع إنكلترا أكثر من الألماني أو اليوناني. وعلى مدى الثلاثين عاماً الماضية، نسي البريطانيون هذه الحقيقة تقريباً أثناء اندماجهم في الاتحاد الأوروبي وتعهدوا بتبني القيم الأوروبية في مسار مشترك إلى “اليوتوبيا” المفترضة، لدرجة أن انكلترا ظلّت تشكك إلى حدّ ما في قارية الاتحاد الأوروبي من خلال رفض اليورو وعدم تبني الاشتراكية الأوروبية.
إن الجهود التي يبذلها جونسون كرئيس وزراء جديد هي -ظاهرياً- تنفيذ لإرادة الشعب البريطاني كما تمّ التعبير عنها في عام 2016، وهي ضد رغبات الاتحاد الأوروبي ومعظم المؤسسة البريطانية. ولكن بعد مئات السنين من الاستقلال الصعب، هل ستندمج بريطانيا أخيراً في أوروبا، أم ستحتفظ بثقافتها الفريدة وتقترب أكثر من البلدان الناطقة باللغة الإنكليزية التي أسّستها ذات يوم، والتي تؤدي أداءً أفضل من معظم أعضاء الدول التي تمّ تنظيمها بشكل متزايد في الاتحاد الأوروبي المناهض للديمقراطية؟.