يا لهذا اللّغز..المرأة!
اغترف فلسفته من فم النبع مباشرة، نبع الحياة الثّر، بخلاف صاحبه الذي كان يصفه بـ”عثّ الكتب”. الرجل الستينيّ الطويل القامة النحيل الجسد الجاحظ العينين، صاحب الرأس المفلطحة كالكعكة واليدين المتحجّرتين المشقّقتين الملقّب بـ “مجرفة الفران” ومضيّع الوقت “الذي كان حين تعوزه العبارة، يرقصها، ولا يرتوي أبداً من الحياة وعشق النساء جازماً بثقةٍ: بأنّ الربّ يغفر كلّ الذّنوب إلّا أن تنام المرأة وحيدة، وأنّ الرجال سيحاسبون على ذلك يوم الحساب” والسؤال هنا للتّفكّه وحسب، ترى لو اقتنع الكثيرون والكثيرات بهذه الحكمة الزورباويّة، ألم تكن العنوسة باعتبارها عزلة ونكوصا وموقفا قلقا من الذكورة، قد غدت موهبة ومتعة؟”. “زوربا” الوجودي الكبير، يرى بأنّ المتعفّفين عن ممارسة الجنس من الرجال سيتحوّلون حين عودتهم إلى الأرض بغالاً، وكثيراً ما كانت تفاجئه الأنثى بتحوّلاتها وتجدّدها الدّائم، إذ مهما سقطت، ستنهض عذراء، فيهتفُ مذهولاً: “يا لهؤلاء العاهرات، ليباركهنّ الرّب”.
قرّر “باسيل” البطل الثاني والراوي الأساسي للأحداث، حين تعرّف عليه في المقهى ذات يوم أن يضع حدّاً لفلسفة التّنظير والكتب ويخرج من جحره الثقافي إلى الحياة والهواء متنسّماً العطور، فاستأجر منجماً للفحم وعيّن “زوربا” مديراً له، بعد أن أعجبه جوابه التلقائي، وهو يطرح عليه ببساطة وثقة أن يأخذه معه كطبّاخ مثلاً، ثمّ أقنعه بأنّه خبير معادن ويجيد حفر الأنفاق وإلخ.. وحين سأله ما الذي يحمله بتلك الصّرّة تحت ذراعه أجابه بأنّها “آلة السّانتوري” التي يعزف عليها كلّما أفلس وكلّما أعياه التّعبير في شرح فكرته، وقد وجد في السؤال فرصةً لتوجيه الشكر لمعلّمه التركي الذي درّبه على العزف عليها رغم عدم امتلاكه للنقود، قائلاً: “لابدّ أنّه مات رحمه الله، فإذا كان الله يسمح بدخول الـ… إلى جنّاته، فلعلّه يفتح أبواب الجنّة لرستب أفندي”. وجد “باسيل” مفارقة مدهشة بين شكل الرّجل وفظاظة ملامحه البادية وبين أدائه على الآلة الموسيقيّة متسائلاً: كيف لهاتين الكفّين المتحجّرتين والمتشقّقتين اللّتين تمسكان بالمعول بقوّة أن تعزفا ألحاناً رقيقة على “السانتوري”؟!. ومع ذلك لم يكن يرضخ لطلب الآخرين منه بأن يعزف متى يريدون، بل كان يعزف متى أرادت روحه هو أن تعزف، وقد لفت الكاتب أنّ إبهام يده مقطوع فسأله عن سبب ذلك فأجاب ببساطة، لأنّها أعاقته في مهنةٍ كان يعشقها وهي مهنة صنع الفخّار ولذلك قطعها.
كانا على نقيض ظاهريّ لكنّهما في الحقيقة سليلا روح واحدة “نظريّة وعمليّة” فـ”اسيل” أرنب، يخشى الناس والمرأة ولا يثق بالإنسان ويلتهم الكتب. بينما “زوربا” هو فأر حياة يقضم جبنتها وملذّاتها بفم لا يعرف الشبع، وينهل من جمالها بعين لا تعرف الارتواء. يعشق الأنوثة حتى الثّمالة ويثق بالحياة وعطاءاتها التي لا تنتهي، لدرجة أنّه وعد امرأة تحتضر بأنّه سيتزوّجها بعد أن أحضر لها باقة زهور علّها تنعشَ قلبها المرتجف. وقد اعتقد بثقةٍ أنّه دخل الجنّة وهو حيّ. وجد فيه الكاتب تحطيماً لرتابة ومنطق الحياة والأخلاق التقليديّة، ومزيجاً من الطهارة والحبّ والفنّ والعاطفة الجيّاشة، فتعلّم منه حبّ الوجود ومصادقته بعد أن كان يبدو له كوناً معادياً للإنسان وطموحاته، وهو الذي كان يقول متشائماً من البشر: لا تفتح عيونهم دعها مغلقة، وإلّا سيرون بؤسهم، دعهم يغرقون في أحلامهم. كما تعلّم منه أيضاً، فنّ العيش والحريّة وفلسفة الحياة الحقيقيّة والبحث في جوهر الوجود. حين كان يقول له بحكمة فيلسوف: “لا تخشَ شيئاً عندما تقرّر شيئاً”. معتقداً بأنّ ثمّة قوّة وهميّة خلقت الفتيات الجميلات والربيع والخمرة. بينما تلخّصت مهمّة الرّبّ في إيجاد الصّوم والكهنة والفتيات القبيحات، وأنّ الله العظيم الذي لا تسعه السماوات والأرض يسعه قلب الإنسان، لذلك، حذّره: إيّاك أن تجرح قلب الإنسان، لأن الله يسكن فيه، لم يكن يخشَى الموت بل العجز ويكره الشّيخوخة ويعتبرها عاراً.
“زوربا” هو الوجه الآخر لـ “باسيل” وللكاتب الفيلسوف “نيكوس كازنتزاكس” البطل الثاني للرواية، والوجه الآخر لكلٍّ منّا، كازنتزاكس حفيد “سقراط” الفيلسوف الإغريقي الكبير الذي مازال تأثيره عظيماً على الفكر البشري حتى الآن. الفيلسوف الذي جاهر بأفكاره بقوّة، ما أوصله إلى الموت المحقّق بعد أن حكم عليه الجهلة “ولكلّ عصر جهلته وظلاميّوه” بأن يتجرّع سمّ “الشوكران” وهو القائل: “العيش في الفضائل أهمّ من عبادة الآلهة” وكانت تهمته “الإلحاد وإفساد الأجيال”، كما مُنعتْ كتب “كازنتزاكس” ليتوفّى في ألمانيا عام 1957م، ومُنعتْ الصّلاة عليه في “أثينا” ليدفن في “كريت” بعد أن أوصى بأن يكتب على شاهدة قبره هذه العبارة المتمرّدة “لا أمل في شيء، لا أخشى شيئاً، أنا حرّ)، التي تشي بتأثره بأفكار الفيلسوف الألماني ” نيتشه “وقد قال معبّراً عن هذا الإعجاب: ما الذي قام به هذا النّبي؟ طلب منّا أن نرفض العزاءات كلّها: الآلهة، الأوطان، الأخلاق، الحقائق، وأن نظلّ منعزلين من دون أصحاب ورفاق، وأن لا نستعمل إلّا قوّتنا، وأن نبدأ في صياغة عالم لا يُخجل قلوبنا.
أوس أحمد أسعد