الروائي علي بدر: أين أنتم أيها النُقادّ؟
كل رواية مكتوبة باللغة العربية هي جزء من الأدب العربي، وعندما كان أدبنا يُنسب إلى لغته، وليس إلى تسمية أقاليمه الجغرافية، لذلك وجب علينا عند ظهور روائي أديب ذو شأن، جريا على عادات الأسلاف، الذين كانوا عندما يظهر شاعر في قبيلة أو حي، فإنهم يحتفلون به، ويستقبلون الوفود للتهنئة، فقد أصبح لديهم لسان أدب يُكرم فضائلهم، ويدافع عنهم، والأهم من ذلك اقتراحه المثل العليا والحض عليها، ولذلك حري بنا أن نتوجه للأشقاء العراقيين ومعهم جميع من لم يزل يقرأ ويكتب ويطرب للغة العربية، لنهنئ أدبها بظهور روائي اسمه “علي بدر”، لديه فرصة كبيرة ليرث عرش الرواية العربية، فوفاة نجيب محفوظ 2006، ثم الروائي الأردني “زياد قاسم” في عام 2007، قد تركا العرش شاغرا؛ علي بدر يُظهر في أدبه وأعماله الروائية، أنه ربما جلس منذ فترة على ذاك العرش، ولكن لم يتوجه أحد، ربما لأنه منشغل بانقلابه الخطير في مملكة الرواية العربية، ولذلك كان هذا التنويه، فهو رغم شهرته في مختلف البلدان العربية، وترجمة أعماله إلى عدة لغات، غير أنه لم يزل مجهولا بين أوساط القُراء السوريين، ففي زمن الرداءة والنقاد أصدقاء الكاتب، والكاتب صديق الجميع، من السهل أن يضيع اسم روائي يستحق كل احتفاء، وفق ما يحدث عادة للصالح مع الطالح.
الروائي الرصين “علي بدر”، من مواليد بغداد-الكرادة الشرقية، سنة 1964، ولكي نعرف منابع أصالة هذا الكاتب، يمكن التوقف مع مراحل مفصلية في حياته، فقد أدى خدمته العسكرية لسنوات عديدة، في حرب مهولة، ثم اشتغل بصيانة المخطوطات وكتابتها، وبعدها عاش مرحلة الحصار والغزو، ولذلك كان بارعا في نقل حالة الانحطاط الفكري والأدبي، ليس من موقع المتعالي عليها، ولا من موقع جلد الذات، ولا حتى من منظور أي تيار فكري حداثوي، بل بنقله الواقع والإشارة إلى مواطن الخلل، من دون قيامه بإقحام أيديولوجية ما، ولا حتى أيديولوجيته الشخصية، بل فعل ذلك من وجهة نظر المؤرخ الحيادي، وهو وإن كان مؤرخا حياديا حسب الفرضية الفنية لأعماله، فإنه نجح تماما، في أن ينقل لنا، وجهة نظر التاريخ الفكري لمدينة بغداد وعراقتها العلمية والأدبية، ضد الوضع الأدبي والثقافي الراهن، وكم هو متفسخ ومنحل، فوسَمَ ذلك الانحطاط بانقطاعه عن أصالته وجذوره، وإتباع المثقفين المحيطين به، لكل صوت نشاز، يحمل سمة الماركة التجارية، مثلما يحدث في روايته المتزنة “بابا سارتر” الصادرة عام 2001، والتي يقدم فيها مجتمعا ثقافيا محليا، ينطبق على بغداد ومختلف العواصم العربية، يتعامل مع الفيلسوف الفرنسي “سارتر” بوصفه وثنا فكريا، بطل الرواية من شدة ولعه ب “سارتر”، يتمنى لو أن له عينا مقلوعة، مثل مفكره الأثير، فيحسد بائع بسطة خضار، لكونه أعورا ويغبطه على تلك العين الوجودية!.
وفي روايته “صخب ونساء وكاتب مغمور”، الصادرة عام 2005، يقدم منجما أدبيا كاملا، من خلال حشدٍ من الشخصيات، ومن حبكاتها المزدحمة بتوازن ورشاقة، سيستنبت منها بذورا لأعمال روائية جديدة، ففيها العديد من الشخصيات، التي تستحق أن تكون بطلة عمل روائي آخر منفصل، قائم على تقديم الشخصيات المهمشة في الحياة الاجتماعية والثقافية، فيقدم للقراء بدقة الصائغ، مختلف تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في بغداد، وذلك بأسلوب باروكي يجمع كل ما هو متباين ومتناقض ومتنافر، في وحدة جمالية.
من بين سطور أدبه، تسمع جلبة مقاهي بغداد وحاناتها، فنادقها ومواخيرها، مسارحها وأحوال صحافتها،يصطحبك ليعرفك على حياة العائلات البغدادية الثرية والغنية.
إنك أيها القارئ مهما كنت بارعا في القبض على خيوط القصة، فسوف تنطلي عليك خديعته المُحكمة، بأن يخفي عنك جميع المفاصل بين الواقع والخيال، بحيث أنه يريك واقلعا خياليا، وخيالا لا تستطيع حياله إلا القول: هذا واقع!، فينجح بذلك باستثارتك، طارحا عليك سؤالا: “انظر إلى هذا الواقع، أليس اغرب من الخيال؟”. في أعماله الروائية ال 15، ينجح فيها جميعها من خلال أسلوبه الحرفي المتزن، بأن ينقل تشويقا مثيرا للقارئ، رغم الحيادية التي يُظهر بها حرفيته الأدبية الرفيعة، فإنه يدفعه إلى التشبث بالسطور أكثر وأكثر، ثم يتوج ذلك التشويق المستمر، بنهايات غير متوقعة، دون أن يتخلى عن العمق في الطرح، ونبش لمواطن مظاهر الانحلال.
نتاجه الأدبي يُحرك جميع المياه الراكدة في المشهد الأدبي العربي، يخلع النوافذ ويقتلع الكثير من القناعات الراسخة، عند أجيال –الستينيات/ السبعينيات/ الثمانينات- ليجدوا أنفسهم أمام دعوة لا هوادة فيها، لفحص الأرضية التي يقفون عليها، فيكتشفون أنها تميد بهم، لذلك يجد القارئ العربي نفسه: إما أن ينصرف عن أدب علي بدر ليتجنب مراجعة الذات، بأسئلة حادة ومصيرية، وإما أمام الإقبال على عوالمه، حتى لا يخسر فرصة نادرة وربما الأولى في الأدب العربي، تتيح هذا الكم من التلصص، على حيوات شخصياته التي هي من لحم ودم؛ فقط شهرزاد سبقته لذلك، وليس من الصدفة بمكان، أن يكونا من ذات المدينة.
الاحتمال الثاني، أي الإقبال على أدبه، يبدو أنه الأوفر حظا، بل يمكن القول إننا دخلنا في مرحلة أدبية تحمل مزايا أعماله، فظهرت تجارب استفادت من أجوائه وعوالمه وأسلوبه، كتجربة الروائي خليل صويلح، في أعماله الخمس الأخيرة.
تمّام علي بركات