ثقافةصحيفة البعث

هويات متعددة في السرديات التاريخية لدى د. فاضل الربيعي

 

 

معظم النظريات اللاهوتية الاستشراقية عن تاريخ فلسطين والمنطقة، تقوم وفقاً لمنطق وتصور زائف يقول بوجود “هويات” متعددة للسكان، لذا شاعت مصطلحات متعددة مثل ” كنعاني” و”آرامي” و”فينيقي” و”فرعوني” فالغرب اللاهوتي اخترع هويات لسكان المنطقة، لأجل إقناعهم بأنهم سكان غرباء عن بعضهم، وأن الآرامي السوري لا صلة له بالكنعاني الفلسطيني أو الفينيقي اللبناني، وواقع الحال، أن كل هذه المصطلحات لا أساس لها، وهي مأخوذة في معظمها من أسماء جماعات قبلية ورد ذكرها في التوراة.
بدأ د.فاضل الربيعي محاضرته -التي أقيمت في مكتبة الأسد، ضمن الفعاليات الثقافية المرافقة لمعرض الكتاب بعنوان “السرديات التاريخية” بمقدمة عامة لتعريف السرديات التاريخية والدينية، فيقول: هيمنت السرديات التاريخية بفضل مناهج التعليم، وكتّاب التاريخ التقليدي، وأسسها وأنشأها الفكر الاستشراقي اللاهوتي والتي على مدى أكثر من مائة عام رسخت فكرة أن القدس هي أورشيلم، ونابلس هي شكيم، وإسرائيل الموجودة غرب فلسطين كانت منذ ألفي عام، وحائط المبكى جزء من حائط قديم، وغيرها من الصور الزائفة. والحقيقة، هناك خلط في السرديات متعمد أو ناجم عن سوء فهم وتقدير، فمثلاً في سور القرآن الكريم يجري الخلط بين بني إسرائيل واليهود، وهذا يضرب بجذوره إلى بدايات ما يمكن تسميته بعصر الانحطاط في الدولة الإسلامية، عندما عكف الكثير من المفسرين إلى الخلط بينهما في النص القرآني ثم سرعان ما دخل هذا الخلط في السرديات التاريخية عن المنطقة وتاريخ شعوبها.
يميز القرآن الكريم بين اليهود وبني إسرائيل في معرض الإشارة إليهم في الآية التي تقول: “يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” وهذا دليل على أن بني إسرائيل هم جماعة بشرية قبلية لها مكانة دينية وعائلة مقدسة أفرد لها القرآن مكانة متميزة. هذا التمييز يحيلنا إلى فكرة أن بني إسرائيل قبيلة عربية يمنية قديمة ويهودية الدين، فاليهودية ولدت في أرض العرب وهي دين من أديانهم.
هذا التمييز ضروري لطرح الأفكار المتعلقة بكيفية صناعة الهوية في المنطقة، لقد عملت جماعات لاهوتية مستشرقة في تنقيب الآثار -80% منهم كانوا خريجي معاهد لاهوتية يهودية وليسوا خريجي آثار- قاموا بعمليات التنقيب وكتابة السرديات التي هيمنت على عقولنا طوال 200 عام الماضية ونحتوا هذه المصطلحات.

من فلسطين إلى اليمن
يرى د. الربيعي أن هناك أربعة اصصلاحات أو هويات زائفة ما تزال تهيمن على عقولنا، الاصطلاح الأول وهو “الكنعانيون”، ما من فلسطيني اليوم إلا ويفتخر أنه كنعاني ويعتبرها هويته، ولكن دون أن يعرف أن هذا المصطلح الزائف الذي نحت بخبث ودهاء هو مصطلح تحقيري القصد منه تحقير الفلسطينيين وليس تكريمهم.
المصدر الذي استمد اللاهوتيون والآثاريون منه هذا المصطلح هو التوراة، حيث وردت كلمة كنعان والكنعانيون وشفة كنعان في نصوص متعددة، والمصدر الثاني هو السجلات الآشورية عندما تحدثت أنهم اصطدموا بجماعة سموها الكنعانيين لذلك قام هؤلاء بمطابقة النص التوراتي مع المصطلحات التي وجدت في السجلات الآشورية، وبعد أن وجد اللاهوتيون مصدراً لدعم روايتهم اعتبروا أن هذا دعم غير محدود لنظريتهم القائلة أن التوراة تحدثت عن جماعة شعوب أخرى ومن بينها الشعب الكنعاني.
وفي السجلات الآشورية يتكرر مصطلح الكنعانيين في سياق مختلف عن الرواية اللاهوتية، تقول السجلات أن الأشوريين اصطدموا بجماعة تدعى الكنعانيين، وهذا الاصطدام حدث بعد أن قام عدد من ملوك بني إسرائيل بالصدام مع الحميريين والآراميين والكنعانيين والسبئيين في فلسطين وهذا غير منطقي، ما الذي جاء بالسبئيين والحميريين إلى أرض فلسطين؟ هذا يعني أن مسرح الأحداث يدور في رقعة جغرافية أخرى لا علاقة لها بفلسطين، لو نقلنا مسرح أحداث التوراة من الرواية الاستشراقية من فلسطين إلى اليمن فستبدو هذه الجماعات داخل بيئة يمنية.
في الواقع، أُطلق مصطلح الكنعانية على الفلسطيني بهدف تأكيد الصورة التحقيرية لهذه الجماعة بعد استيطان جماعات جاءت من أوروبا على أرض فلسطين، وهذا سلوك تمارسه كل الجماعات الاستيطانية في التاريخ.

الفراعنة ومملكة أوسان
وأضاف د.الربيعي: الكل يتحدث عن الحضارة الفرعونية وما من مصري إلا ويفتخر بها، وفي الحقيقة كلمة “فرعون” كلقب أو تعبير غير موجودة في السجلات، هناك قوائم باسم 20 أسرة حاكمة في مصر، ويطلقون على أنفسهم لقب ملك وليس فرعون، بل أكثر من ذلك اسم مصر لم يظهر في السجلات المصرية القديمة إلا بعد 750 قبل الميلاد وقبل ذلك كانت تسمى “إيجبت”.
مصطلح فرعون ظهر مع انتشار قصص القرآن والتوراة، وفي القرآن يرسم الاسم “اهبطوا مصرا”وهذا أثار نقاشاً بين اللغويين العرب القدماء ووقعوا في إشكالية عندما حاولوا تصريف اسم مصر لأنه اسم ممنوع من الصرف، كلمة مصرا التي قصدها القرآن هي المملكة القديمة في منطقة الجوف اليمني وسط اليمن التي نشأت عام 850 قبل الميلاد وكانت تسيطر على تجارة البخور في اليمن القديم، هذه المملكة لديها سجل يعرفه كل علماء الآثار بتسلسل ملوكها وسنوات حكمهم، وإلى الجوار من هذه المملكة نشأت مملكتان صغيرتان “قتبان” ومملكة “أوسان” وهاتان المملكتان عرفتا بأنهما أرض كنعان وتتحدثان بلغتها، عُرفت إحدى أسر ملوك أوسان بأسرة الفراعنة وادعى أحد ملوكها الربوبية، ويحتفظ متحف عدن بتماثيل هذا الفرعون.

الإمبراطورية السورية
ويؤكد د. الربيعي على أن العديد يعتقد ويصدق الخرافة الاستشراقية اللاهوتية التي تقول أن سورية وقعت تحت الاحتلال الآرامي عام ألف قبل الميلاد، وطبعاً هذا غير صحيح لأن سورية كانت الإمبراطورية الآشورية, وبالعودة إلى المصادر التي وردت فيها هذه الأسماء، نجد أن التوراة يصف الآراميين على أنهم جماعة صغيرة تتحدث لغة دينية خاصة بها وتكتب بحرف خاص بها أيضاً هو الحرف المربع، وفي السجلات الآشورية هذه الجماعات ذاتها اصطدمت بالآشوريين وهم كانوا في تحالف مع الإسرائيليين وتصدوا للغزو الآشوري، فهل من المنطقي أن تتجاوز هذه القبيلة الصغيرة مسافة ألفي كم لتحتل سورية؟! الآراميون في سورية هم مواطنون سوريون عرب يتحدثون لغة دينية خاصة بهم وهم جماعات دينية قديمة سورية الأصل والجذر،أما العرق الفينيقي لم أجد دليلا على وجوده. وختم الربيعي بملاحظة أن الغرب تمنّع طوال مئتي عام عن أن ينطق الإمبراطورية الآشورية بالنطق الصحيح والذي هو الإمبراطورية السورية وليس الآشورية والتي هي بلاد الشام القديمة، وركبوا هويات الغرض منها تمزيق النسيج الجغرافي والاجتماعي والتاريخي للجماعات الساكنة في هذه المنطقة وخلق عرقيات لاوجود لها.
علا أحمد