قلْ لي..
د. نضال الصالح
ما مِن قول تواتر في المأثور الجمعيّ لم يكن خلاصة تجربة إنسانية عميقة ومديدة، ولذلك تُعدّ الأمثال واحدة من الصور المعبّرة عن المشترك الإنسانيّ في غير مكان وغير زمان، ومن تلك الأمثال ما استقرّ بوصفه حكمة أكثر من كونه مثلاً فحسب، ولاسيما ما يعني حصافة المرء في اختيار أصدقائه، لأنّ ثمة علاقة جدل، بالمعنى الفلسفي، بين الشيء وصورته، فكيف إن كان هذا الشيء ذاتاً لا جماداً؟ بل كيف إذا كان يعني الإنسان نفسه من جهة، كما يعني خياراته في الحياة من جهة ثانية؟
من تلك الأمثال قولهم: “قلْ لي مَن تصاحب أقلْ لكَ مَن أنت”، الوثيق الصلة بغير حكمة دالّة عليه ومعبّرة عنه، ومن ذلك الحديث النبوي القائل: “المرءُ على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالل”، الذي يتجاوز لفظ الدين فيه ومعه ما يعني المعتقد السماوي إلى ما يعني مفردات الحياة عامّة، ومن قبل قول الشاعر الجاهليّ طرفة بن العبد: “عن المرء لا تسأل وسلْ عن قرينه/ فكلّ قرين بالمقارن يقتدي”، ومن ثمّ المثل القائل: “يُعرف المرء بأقرانه”، أي بأصدقائه وأصحابه، ومّن يمضي معظم وقته معهم، وسوى ذلك ممّا يؤكّد أنّ الإنسان وصديقه وجهان لقيمة واحدة، بل هما أشبه بالدالّ والمدلول في علم اللسانيات.
وقياساً على ما تقدّم يمكن القول أيضاً: “قلْ لي ماذا تقرأ أقلْ لك مَن أنت”، و”قلْ لي أيّ البلاد أحبُّ إليك أقلْ لك مَن أنت”، و”قلْ لي بمَ تحلمُ لتحقيقه في الحياة أقلْ لك مَن أنت”، و”قلْ لي ما صفة أو صفات المرأة التي تحبّ أقلْ لك مَن أنت”، و”قلْ لي بمَن تثق أقلْ لك مَن أنت”، حتى آخر هذه القائمة ممّا يشير إلى معرفة المرء من خلال آخر لصيق به، أو قريب منه، أو ملازم له، ذلك أنّ خيارات الإنسان في الحياة هي الدوالّ على وعيه، وثقافته، وقيمه، ومبادئه في هذه الحياة أيضاً، فمَن كانت خياراته من الأصدقاء الأطهار والأنقياء من البشر كان بالضرورة من الأطهار والأنقياء، ومَن كانت خياراته من الأصدقاء نقيض أولئك كان بالضرورة نقيضهم أيضاً.
أجل لقد صدق طرفة بن العبد في دعوته إلى السؤال عن قرين المرء لا عن المرء نفسه، فالمرء صورة قرينه، صديقه، ودالٌّ عليه، فالصادق لا يصاحب كذوباً، والعالِم لا يصادق جاهلاً، والعاض بنواجذه على قيم الحقّ والخير والجمال ينأى بنفسه عن قتلة هذه القيم ومستبيحي دمائها، والمثقّف بحقّ لا يمضي نهاره ومعظم ليله مع دخيل على الثقافة، والوطنيّ بحقّ لا يتقافز بين خندق وآخر من أجل مغنم صغير هنا أو مكسب ناحل هناك، لأنّ القيم لا تتجزأ، كما أنّ المبادئ لا تتعدد عند الإنسان الحقّ، ولأنّ الحقّ بيّن كما الباطل بيّن، والطهارة بيّنة كما الدنس بيّن.
وبعدُ، أفلا يصحّ القول: “قلْ لي مَن تكرّمُ أقلْ لكَ مَن أنت”؟