“رياح الخماسين” الدراما التلفزيونية الحقيقية
الأداء الجيد والمحترف والأخاذ للفنان الكبير أسعد فضة في مسلسل “رياح الخماسين” يقبض على الانتباه من اللحظات الأولى لأي مشهد يظهر في المسلسل المذكور، وقد يكون أفضل أو من أفضل الأدوار التي قام بها “فضة” في مسيرته المهنية المديدة والغنية، لا أعلم وأنا أشاهده في “رياح الخماسين”، أين ينتهي “فريد أبو خليل” وأين يبدأ أسعد فضة! هناك وحدة تامة بينهما، وهذه المهارة ما كان بإمكانها أن تظهر لولا السيناريو الجيد.
التعامل مع مدينة غير دمشق في تاريخ معاصر قريب، كزمن للقصة، مسألة قلما تنجح في الدراما المحلية، الأعمال الحلبية الناجحة، كانت مقتصرة على الماضي فترة الأربعينيات والخمسينيات، أما الأعمال الحلبية المعاصرة، فلم تنل ذاك النجاح، وظهرت نسخة باهتة عنها، وغير ذلك أين نجد مدينة سورية في الدراما المحلية؟ لا درعا ولا ادلب لا طرطوس لا حمص لا الرقة لا دير الزور لا الحسكة، ولا اللاذقية حتى قبل هذا المسلسل، أما السويداء فإنها أيضا كذلك الأمر، فلا يمكن اعتبار مسلسل “الخربة” عن مدينة السويداء لأنه عن ريفها، ومثله ضيعة ضايعة، ذلك يعني أن النص كان في غاية الصعوبة، لأنه لا يستطيع أن يستقي أو يستند على أعمال شبيهة، هذه الصعوبة دفعته للاستناد الى الواقع مباشرة، وهذا من أسباب جودته. الأماكن واضحة بالأسماء، العلاقات الاجتماعية مكتوبة بشكل جيد، وتراعي السمات العامة للسلوك، التي تختص بها كل مدينة سورية عن أخرى، وذلك طبيعي لأن كل مدن سورية مراكز حضارات منذ فجر التاريخ، وهناك إلمام بالتطور التاريخي لمختلف الشخصيات، فالجميع قد تبدل، باستثناء زوجته التي لم تزل تنتظره، وحملت عبء الأسرة في غيابه، ومنذ اللحظة الأولى لخروجه يكون له في المرصاد صديق الأمس، والذي فورا يحاول أن “يُشغله”، تحت جناحه، ويعرض عليه كتابة مذكراته، فيفهم أن هذه الرغبة لصديقه “البزنس مان” الآن، هي لإسكات صوت ضميره، وأيضا ربما سلاح لفضح بعض الخصوم في قطاع الأعمال، فيكتشف البطل أن صراعه الآن مختلف عن صراعه الذي كان في الماضي، فقد انتمى أصدقاء الأمس لخصوم اليوم؛ البطل وحيد في مواجهة حالة من الخراب النفسي والأسري والاجتماعي أصاب الجميع، وهذا من ملامح البطل الشكسبيري، الذي يتعملق وحيدا تجاه تقزم المجتمع، ثم وكي لا يكون عالة على أحد، يفتتح له دكانا صغيرا، ليسترزق منه، استراحة محارب مهدود القوى، لم يعد يرغب من الإصلاح إلا المحافظة على صلاح نفسه، فيكتشف أن هذا ممنوع أيضا، فعندما يبيع بنزاهة ومن غير غش، يؤذيه جاره الغشاش صاحب الدكان المجاور، كان يحلم بتغيير المجتمع نحو الأفضل، والآن اكتشف أنه لا “يمون” على بسطة وبعض الرفوف!؛ بساطة الطرح تجعل عملية الترميز والمجاز سهلة لمختلف شرائح الجمهور.
الموسيقا تراعي ثيمة العمل ومشاعر البطل في اكتشافه لتغير العالم الذي أصبح جديدا عليه، ومشاعر الخذلان من أصدقاء الأمس وواقع اليوم، ثم مشاعر التوتر والصراع بين البطل ومحيطه، وغيرها من الشخصيات التي تتكلم كل واحدة بشكل مقبول، كل ذلك ونحن نرى عالما من وجهة نظر البطل، وهذا يزيد من التعاطف معه، لأن الجمهور يتقمص الشخصية.
هذا وغيره من الشروط الفنية العالية للعمل المذكور آنفا، تضعه في مصاف العمل الدرامي الحقيقي، ومن النوادر في الدراما المحلية، أن يكون المسلسل حقيقيا.
تمّام علي بركات