دراساتصحيفة البعث

الناتو يفضل أوروبا ضعيفة ومسالمة

عناية ناصر

تمتلك الولايات المتحدة جيشاً كبيراً جداً، وميزانيتها أكبر بنحو أربعة أضعاف من ميزانية الصين، على الرغم من أن عدد سكان الصين أكبر بأربعة أضعاف، وتمتلك نحو ضعف عدد الجنود. كما أن الميزانية العسكرية للولايات المتحدة أكبر بنحو مرتين ونصف من ميزانية دول منظمة حلف الناتو في أوروبا مجتمعة. إضافة إلى كل ذلك فإن الميزانية العسكرية لواشنطن أكبر من الميزانيات العسكرية المشتركة للصين والسعودية وروسيا والمملكة المتحدة والهند وفرنسا واليابان، لكن يتمركز العديد من جنود هذا الجيش الضخم خارج الولايات المتحدة.

يحتفظ الجيش الأمريكي بأكثر من ثمانمائة قاعدة في دول أجنبية، وهو أكبر عدد من القواعد في العالم، وقد ورث بعضها من المقتنيات السابقة للإمبراطوريات الأوروبية مثل إسبانيا وبريطانيا، وكسب بعضها الآخر من خلال الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، كما تمّ الحصول على  بعضها عبر التفاوض مع حكومة مضيفة كجزء من تحالف أو مقابل ضمانات أمنية أمريكية. عادة ما يتمّ تفسير هذا الوجود العسكري العالمي بالسرد التالي: تخلّت الديمقراطيات المسالمة في جميع أنحاء العالم -التي لا تميل إلى تهديد بعضها البعض- عن حلّ مشكلاتها من خلال العنف، ولم تعد ترغب في بناء الجيوش الضخمة، والاحتفاظ بها، وبدلاً من ذلك، تقدم لها أمريكا المظلة الأمنية التي تزدهر داخلها، والتي بدورها تضمن استقرار الاقتصاد والنظام العالميين.

يمكن رؤية مثال على ذلك في تاريخ أوروبا الهادئ نسبياً منذ عام 1945، فما هو شائع أن الثقافة الأوروبية، التي كانت ذات يوم تمجّد الحرب والقتال بشكل استثنائي، تغيّرت بسبب الحرب العالمية الثانية. وتحت تأثير ما أحدثته الحرب العالمية الثانية من قتل وتدمير، دعمت القوى الإمبريالية السابقة إنشاء مؤسسات جديدة، مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من أجل منع اندلاع حرب أخرى في القارة.

إن أكثر من خمسة وسبعين عاماً من السلام الأوروبي، تفسّرها في معظمها، ذاكرة الخراب الذي حدث في منتصف القرن وظهور مؤسسات سياسية جديدة. إذا كان هذا التفسير صحيحاً، فلماذا تدعم الولايات المتحدة الأمن الأوروبي؟ كما قال الرئيس دونالد ترامب في قوله الشهير عن حلفاء أمريكا في حلف الناتو: “إنهم لا يدفعون نصيبهم العادل”. تبدو وجهة نظر ترامب، بغضّ النظر عن منطقه الخاص، أكثر منطقية من الرواية الأوروبية. وفي الوقت نفسه، يصرّ الكثيرون من اليسار على تخفيض الميزانية العسكرية للسماح بمزيد من الإنفاق على القضايا المحلية، بينما يعترض الكثيرون من اليمين واليسار في الولايات المتحدة على الزيادة  في الوجود والإنفاق العسكريين، لكن الرواية الأساسية، غالباً ما تمرّ افتراضاتها دون تحدٍّ.

لكن قبول هذه الرواية هو دون شك إساءة في قراءة تاريخ السلام الأوروبي بعد الحرب، كما أنه أيضاً لإساءة فهم الديناميات الجيوسياسية التي تدفع إما باتجاه الحرب أو لجعل التعايش السلمي أكثر احتمالاً. بدلاً من أن يكون السلام الأوروبي نتاج مؤسسات جديدة، أو نتيجة ذاكرة جماعية للحرب، فإن تفسيره أبسط: نزع السلاح الفعال والتبعية لمجال النفوذ الأمريكي. هذه ليست مجرد مقايضة مالية ديناميكية يمكن فيها للإنفاق والتعزيز العسكري الألماني (كما قد يصبح الحال كذلك) أن يحلّ محل الأمن والاستقرار اللذين وفرهما الإنفاق والوجود الأمريكيان، وليس من قبيل المصادفة أن ثلث الأفراد العسكريين الأمريكيين الذين تمّ نشرهم بين عامي 1950 و2000 تمّ إرسالهم إلى ألمانيا، والتي استضافت وحدها أكثر من عشرة ملايين أمريكي خلال هذه الفترة الزمنية. أما إذا كانت النخبة والجمهور يريدون استيعاب السبب الذي جعل أوروبا تتمتّع بالهدوء طوال العقود السبعة الماضية، فيجب عليهم أن يبدؤوا بفهم كيفية مساهمة نزع السلاح والنفوذ الأمريكي في هذا السلام.

في الواقع الدول الأوروبية غير قادرة إلى حدّ كبير الآن على القيام بعمل عسكري أحادي الجانب ضد بعضها البعض أو أي أحد آخر. وليس ذلك فحسب، بل تعمل أمريكا في أوروبا كضامن أمني، وربما الملاذ النووي الأخير. لقد دفع الناتو الدول الأعضاء (دون أمريكا) إلى تقليص جيوشها، وناقشت المملكة المتحدة وفرنسا تقاسم حاملات الطائرات لأسباب معلنة هي قيود الميزانية، و”إمكانية التشغيل البيني”، وهي أسباب لا تفسّر بشكل كامل الحاجة إلى تقليص الجيش، لأن الميزانيات المحدودة لا تفرض على بلد تقليص جيشه إلاّ عندما يكون الهدف هو تقليل القدرات المكررة بينه وبين الحليف. وبالمعنى العسكري الجيش المقلّص هو قوة دون الميزات الضرورية للعمل العسكري المستقل أو الاستقلال العسكري بالفعل، لهذا  فإن تأثير دفع الناتو لأعضائه للتقليص هو أنهم يصبحون أكثر اعتماداً ليس فقط على بعضهم البعض، ولكن أيضاً في نهاية المطاف على الولايات المتحدة.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عرقلت الولايات المتحدة العمل العسكري المستقل من قبل الحلفاء، وخلال أزمة السويس عام 1956، قامت حكومة مصر بتأميم قناة السويس. ورداً على ذلك، غزت بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل” مصر. وبدلاً من دعم حلفائها، انضمت الولايات المتحدة إلى خصمها -الاتحاد السوفييتي السابق- في ممارسة الضغط الدبلوماسي والمالي على حلفائها حتى انسحابهم. وعندما تحقّق ذلك، تعرّضت الأطراف الثلاثة للإهانة، وخاصة المملكة المتحدة. يمكن اعتبار أزمة السويس بمثابة المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية البريطانية، فقد أظهرت أنه حتى لو كان لدى بريطانيا قدرة عسكرية مستقلة، فإنها لن تكون قادرة على نشرها ضد الرغبات الأمريكية.

في فرنسا، نجد مثالاً لبلد جرّب هذا الاتجاه، فقد نجح لبعض الوقت ولكن في النهاية وجد طريقه إلى حضن العم سام الدافئ. كان الرئيس الفرنسي شارل ديغول رجل دولة موهوباً ومتشدداً، وأراد الحفاظ على مكانة فرنسا كقوة عالمية مستقلة بمواجهة النفوذ الأمريكي والسوفييتي المتزايد. بعد اثني عشر عاماً من التقاعد، عاد إلى السياسة عام 1958، بعد فترة وجيزة من إثبات أزمة السويس أن بريطانيا كانت تابعة لأمريكا، فقد قام بعدد من المحاولات لدعم وتوسيع نطاق نفوذ فرنسا، بما في ذلك الانسحاب من الناتو. في عام 1967، طرد ديغول القوات العسكرية الأمريكية من بعض القواعد الجوية الاثنتي عشرة الموجودة في فرنسا. على الرغم من فشل جهود الجنرال على المدى الطويل، انضمت فرنسا بشكل كامل إلى حلف الناتو في عام 2009، رغم أنها لا تزال تحتفظ بقدرة فعّالة على التدخل من جانب واحد في غرب إفريقيا، وهي جزء من إمبراطوريتها الاستعمارية السابقة. حتى يومنا هذا، تعدّ فرنسا الدولة الرئيسية الوحيدة في أوروبا الغربية من دون قاعدة عسكرية أمريكية.

إن قضية الجغرافيا السياسية الروسية تفسّر أيضاً الرواية المشتركة للسلام الأوروبي. على الرغم من أن لروسيا تاريخاً سياسياً مختلفاً تماماً بعد الحرب العالمية الثانية عن معظم الدول الأوروبية، إلا أنها عانت من دمار هائل في تلك “الحرب الوطنية الكبرى”، التي لا تُضاهى من حيث الخسائر البشرية المطلقة، والتي يمكن مقارنتها من الناحية النسبية فقط مع بولندا وربما ألمانيا. ومع ذلك، فإن ذكرى هذا الخراب تغذي النزعة العسكرية القومية بدلاً من الإحساس “بأن لا مرة أخرى أبداً”، أو الرغبة في تكامل سياسي أكبر في أوروبا.

في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، حافظت روسيا على مكانتها خارج المجال الأمريكي. يفخر بوتين بقدرته على التصرف بشكل مستقل وفق ما يراه مصالح أمنية روسية، لأن روسيا هي الوحيدة من بين جميع الدول الأوروبية التي توسّع مجال نفوذها خارجاً، أو التي تكون في نزاع مع أمريكا.

تمارس واشنطن هيمنتها العسكرية في جميع أنحاء العالم، وقد ظلّ هذا النظام الدولي مناسباً للمصالح الاقتصادية والأيديولوجية الأمريكية، فقد بسط عالماً من العديد من الدول المستقلة عسكرياً وقادرة على العمل الأحادي (والمميت للغاية) في عالم تتمتّع فيه الولايات المتحدة بمجال نفوذ هائل، وحفنة فقط من المنافسين العالميين، مثل الصين وروسيا، قادرة على القيام بعمل أحادي الجانب، لأن معظم الدول في الفلك الأمريكي تعتمد على الولايات المتحدة كضامن أمني نهائي. لذلك، يمكنها أن تكون “مصادر أمن خارجية” لأمريكا، وتنزع سلاحها بشكل فعال وتصبح غير قادرة على القيام بعمل عسكري مستقل.

كما أن نتيجة نزع السلاح الفعلي، هذا للدول داخل الفلك الأمريكي، قد تميل أيضاً إلى تخفيف النزاعات الإقليمية ومنعها. في أوروبا، حيث كانت الحروب العادية حدثاً طبيعياً لقرون، أصبح السلام هو المعيار السائد الآن. يُستخدم مصطلح “الصراع المتجمد” بانتظام لوصف الإستراتيجية الروسية المتمثلة بنشر القوات في الدول التي حدثت فيها صراعات سابقاً، مثل مولدوفا أو جورجيا، من أجل “تجميد” التوترات، لكن أمريكا أتقنت هذه الاستراتيجيات منذ عقود مضت، ولم تعد بريطانيا وفرنسا، أو فرنسا وألمانيا، تدخل في حرب مع بعضها البعض، في تناقض حاد مع تاريخهما الطويل في القيام بذلك. وباتت معظم الدول الأوروبية ذات القواعد العسكرية الأمريكية تعتمد على الولايات المتحدة للحصول على القوة العسكرية، لكن بعضها لن يكون موجوداً على الإطلاق من دون تدخل القوات الأمريكية ووجودها المستمر. البوسنة وكوسوفو مثالان على هذه الدول، لقد منع التدخل الأمريكي في البلقان في التسعينيات صربيا -وبدرجة أقل كرواتيا- من احتلال ودمج البوسنة وكوسوفو. عندما كانت بلغراد عاصمة يوغوسلافيا، كانت البلاد على حافة البقاء كقوة عسكرية محايدة مستقلة تحت قيادة جوزيف بروز تيتو، وكان الأمر كذلك قابلاً للتطبيق كراعٍ لدول أخرى. كانت تيتو يوغسلافيا منظماً رئيسياً لحركة عدم الانحياز، وقدّمت الأسلحة للاعبين المناهضين للاستعمار مثل جبهة التحرير الوطني الجزائرية والحكومة الإثيوبية في الخمسينيات. الآن، بلغراد هي عاصمة صربيا. جمهوريات يوغسلافية أخرى، مثل كرواتيا وسلوفينيا، تمّ دمجها عسكرياً بالكامل في حلف الناتو، وهناك دول أخرى مثل البوسنة ومقدونيا في طريقها إلى ذلك. اعتاد الجبل الأسود وكوسوفو أن يكونا جزءاً من جمهورية صربيا اليوغوسلافية، ولكن الجبل الأسود انفصل عن صربيا وانضم مؤخراً إلى حلف الناتو، وكوسوفو التي أعلنت استقلالها، ما زال محلّ رفض من قبل صربيا، فقد تحوّلت إلى مضيفين  للقواعد العسكرية  الأمريكية.

تدين بعض الدول الصغيرة بوجودها للولايات المتحدة، والوجه الآخر من هذه العملة هو أن القوة العسكرية للولايات المتحدة ضمنت تجزئة وعزل القوى العسكرية المحتملة. إن تجزئة وتحييد القوة العسكرية المحتملة، ولاسيما في نطاق نفوذها، هي إستراتيجية تتبعها الولايات المتحدة ضد روسيا، وقد نجحت بعض “الثورات الملونة” المدعومة من الولايات المتحدة في الجمهوريات السوفييتية السابقة في جلب دول التحالف الروسي السابقة إلى فلك النفوذ الأمريكي. في المقابل حاولت روسيا تقويض هذه المحاولة لتوسيع المجال الأمريكي عبر أعمالها العسكرية في جورجيا وأوكرانيا.

كانت باكس رومانا فترة سلام نسبي في منطقة البحر المتوسط، سيطرت الإمبراطورية الرومانية على المنطقة، حيث قامت جيوشها التي لا تقبل المنافسة بقمع الصراع داخل أراضيها والدول التابعة لها على مدى ما يقرب من قرنين. وبالمثل، فإن السلام الأوروبي الحالي لا يكاد يكون من عمل مؤسسات عموم أوروبا مثل الاتحاد الأوروبي، ولكنه نتيجة رئيسية لمؤسسة باكس أمريكانا!.