رأيزواياصحيفة البعث

“الآمنة”.. وخريف السلطان

 

في التحليل السياسي البارد، وبعيداً عن العواطف والمبادئ والقناعات، يمكن لأي مراقب قراءة المعادلة الوحيدة التي تسير بموجبها سياسة أنقرة هذه الأيام، ومفادها أنه لم يعد للسلطان التركي “منطقة آمنة” يحفظ فيها مستقبله، السياسي والشخصي، سوى الدخول في مغامرة “المنطقة الآمنة”، “اليوم أو غداً” كما توعّد وهدّد، وفي الحقائق السياسية الباردة، ليست “الآمنة” سوى إحدى الأوراق الأخيرة التي تتساقط، بحكم زمنه الآفل، من شجرة خريفه المديد، إن لم تكن، بحكم الألعاب السياسية المعتادة، فخّاً نُصب بعناية فائقة، من قبل أطراف كثر، ليسقط فيه الرجل “اليوم” أو “غداً” على أبعد تقدير، مستغلين في ذلك علمه اليقيني أن ثمن تخفيض حدة الصراع مع الخارج لا يمكن له دفعه إلا في الداخل ومن رصيده السياسي والشخصي أيضاً.
والحال فإن هذه المعادلة الواضحة، والقاتلة، لم تكن لتتحقق لولا انسياق الرجل خلف أوهامه الكبيرة، دون ترك أي طريق مفتوح للعودة، فمنذ سنوات عدة، وعلى خلفية أوهام استرجاع زمن الباب العالي وبناء “السلطنة الجديدة”، ضرب أردوغان عرض الحائط بالمبادئ الستة التي وضعها “فيلسوفه” أحمد داوود أوغلو لرسم مسار وشكّل العلاقات الخارجية لتركيا في زمن حزب العدالة والتنمية، ليخسر بذلك الخارج وعلاقاته المميزة به، ثم وعلى خلفية وهم بدء زمن الرجل الواحد – زعيم الإقليم والأمة الإسلامية معاً – ضرب الأتراك جميعاً وبينهم فيلسوفه الصغير ورفاقه الآخرون بـ”الحائط” ذاته، خاسراً بذلك الداخل التركي عموماً والحزبي خصوصاً، وبالتالي كان من “الطبيعي” لرجل كهذا أن يسير بقدميه، وبعيون مفتوحة، نحو فخّ قاتل، وسواء كان هذا الفخّ منصوباً بقصد أو موجود عرضاً، فقد رمت واشنطن “الجزرة” الأخيرة في طريقه، حين أعلنت بالأمس انسحاب قواتها من منطقة عملياته المقبلة، تاركة أتباعها هناك وحدهم في مواجهة المستقبل القادم والقاتم نتيجة أوهامهم– التي غذّتها واشنطن ذاتها- وقصر نظرهم المزمنيَن.
وبهذا الإطار، وكعادته، لم يكن الرجل الذي تنّكر لمبدأ “صفر مشاكل” وتجاهل مبدأي “السياسة الخارجية المتعددة البعد” و”الديبلوماسية المتناغمة”، صادقاً حين أعلن أن الهدف من “الآمنة” هو “إرساء السلام في شرق الفرات، إلى جانب دحر خطر الإرهاب من الحدود الجنوبية للبلاد”، لأن العملية الموعودة تهدف لتحقيق أمرين مختلفين، الأول داخلي، ويتمثّل بتوجيه الغضبة الداخلية من سياساته المتهورة نحو عدو خارجي يجمع الأتراك خلفه، والثاني خارجي، وهو العمل على استبدال إرهاب خارج السيطرة – إرهاب الكرد كما يسميه – بآخر مضمون و”غب الطلب” من مرتزقته وأتباعه الذين ينوي توطينهم في “الآمنة” ليحقق من خلال ذلك أحد هدفين، الأول جغرافي وهو إعادة سيناريو “لواء اسكندرون” الشهير ليعمّ شمال سورية بأكمله – وعمليات التتريك في كل مجالات الحياة جارية حيث توجد قواته علناً – وإذا تعذّر ذلك فالثاني، أن يكون له عبرهم كلمة وقرار في المسار السياسي السوري القادم.
إذن، مرة جديدة يواصل الرجل، بمنطقته الآمنة المزمعة، وبحجة أمن بلاده، الولوغ بدم “العلاقات المغدورة” مع سورية وهو دم لم يزل طازجاً ويسيل يومياً عبر الحدود المفتوحة على كل “مجاهل” الإرهاب وجاهليته، متجاهلاً حقيقة أن السياسات الآمنة من التآمر، والمعزولة عن الضغط الأمريكي من جهة، وغير الخاضعة لأوامر “البترودولار” الفاسد والمفسد، من جهة أخرى، وحدها التي تجعل الحدود، وبشكل طبيعي آمنة بامتياز.
وفي هذا السياق لابد من طرح بعض الأسئلة على الجميع، أولها، متى يفهم بعضنا أن السائر، “والثائر”، في ركاب التركي هو مجرد “جندرمة” في جنده لا أكثر ولا أقل؟!!، وثانيها، متى يتعلّم بعضنا الآخر من تجربته وتجارب الآخرين حقيقة أن المتغطي بالأمريكي عريان؟!!، وثالثها، متى يفهم أردوغان وأمثاله، أن التجاهل واللعب بالمقولة الاستراتيجية الشهيرة “الجغرافيا والتاريخ لا يستشيران أحداً” سيجعلهم يدفعون الثمن “اليوم” أو “غداً” على أبعد تقدير.
أحمد حسن