الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

تعزيل

 

عبد الكريم النّاعم

بعد السلام قال: “ماذا تفعل هذه الأيام، لقد أصبحنا بين اثنين، إمّا أن يكون الواحد منّا من جماعة يشهق ولا يلحق، وإمّا من القَعَدة الذين أقعدهم تطاول الأيام عليهم”؟
أجابه: “أمّا أنا فلستُ واحداً ممّن ذكرت، فأنا أرتّب أوقاتي بحيث تكون مملوءة، ليس لديّ وقتا للفراغ، إمّا أن أقرأ، أو أشاهد برنامجا ما يشدّني إلى التلفزيون، وكنتُ في صباي يا صديقي قرأتُ أنّ بعض الكتّاب الأدباء ممّن عاشوا ردْحا طويلا من الزمن، كان بعضهم حين أدركتْه الشيخوخة، وأنت تعلم أنّ الكاتب لا يتقاعد عن الكتابة مادام قادراً عليها، بعض مَن ذكرتُ لك كان يعمل حتى إذا شعر بالتّعب، أو بالملل، غادر مكتبه، واستلقى لمدّة قصيرة ثمّ يعود إلى ميدانه الذي خُلِق له، وأنا أقلّد بعض هؤلاء، لا أُكره نفسي، وأناوب بين الراحة والعمل.
قال: “أعرفك جيدا أنت ما تكاد تضيّع وقتا سدى، منذ أن أصبحتّ متفرّغا لنفسك، ولما تنسجم معه، حتى أنّك أصبحتَ ترفض الكثير من الدّعوات التي تُوجّه إليك.”
قاطعه: “صديقي الذي أحبّ أنا لا أنفر من الناس، ومن مجالس العباد، شريطة أن أشعر فيها أنّني قد اخترتُ ما يناسب ذوقي، وتوجّهي، وتطلّعاتي، أمّا حين أُدعى إلى مجلس وأحسّ فيه أنني مُعتَقَل، فلماذا أذهب إليه،؟! هذا كلّ ما في الأمر، ولقد باعدت الأحداث، بتطوّراتها بيننا وبين ما يروق لنا، فنحن أبناء أزمنة أخرى، ورؤى تتباين في معظمها مع ما نواجهه، فلماذا أرضى لنفسي ما ليس فيه أيّة بارقة أُنس، أو فائدة”؟!
قال: “ما علينا، بماذا كنتّ تشغل نفسك في الأيام الأخيرة”؟!
ابتسم وارتسمت على وجهه علامات خجل وقال: “يا صديقي، لديّ الكثير المُتراكِم ممّا يجب أن أقوم به، ولا يستطيع أحد آخر أن يقوم بذلك، لأنّ له صفة شخصيّة، في الأيام الأخيرة وقعتْ عيني على كيس محشوّ بالأوراق، وقد كُتب على الغلاف “رسائل”، أنا أعرف أنّ هذه الرسائل قد وردتني ممّن أرسلوها، وأعرف أنْ لابد من نخْلها، واتّخاذ قرار بشأنها، و.. عينك تشوف، ثمّة رسائل عمرها أكثر من نصف قرن، ومعظم مَن أرسلوها أصبحوا من أهل العالَم الآخر، فهذه رسالة من صديق ظللنا على تواصل وودّ حتى غيّبه الموت، وتلك ممّن مازال يحفظ الكثير من الاحترام والودّ، ولكنّ مسارات الحياة جعلتْه ينقطع فلا تسمع صوته إلاّ في المناسبات التي لابدّ منها، أو في فورة ذكرى عابرة، وتلك من أديب كان بيننا ما كنّا نظنّ أنّه لن تفصمه الأيام، فانفصم، وصار إذا مرّ بي لا يلقي السلام، ورابعة ممّن كنتُ أظنّ أنّ الجبال قد تزول من مكانها ولا يزول عن مبادئه في الحريّة، والديمقراطية والتقدّم، و.. فجأة قفز ببهلوانيّة عجيبة غريبة إلى صفّ الذين أمرهم العرعور بالضرب على الطناجر لإسقاط النّظام!! وخامسة ممّن كان يُعدّ واحداً من أهل البيت وكان يسكن قريبا من بيتنا، وبيننا أكياس من الخبز والملح، فإذا هو في لحظة اختبار حقيقيّة ينشدّ إلى خانة ما كانت تخطر في بال أحد منّا، فانقطعت الأواصر حتى كأنّها لم تكن، ماذا أعدّ لأعدّ؟!، وللأمانة ما أذكر أنّي بدأت بقطع عُرى، لا أكتمك أنّني احتفظت ببعض هذه الرسائل، لماذا لا أعرف، وأعلم أنّ مصيرها الكبّ ذات يوم، على يد أحد ما، ولكنّ عواطفي لم تسعفني لأتلفها، شيء مُبهَم يجعلنا نرجئ التنفيذ”
قاطعه وهو يضحك: “أي أنّك كنتَ تقوم بمهمّة تعزيل”.
بادله الضحك وقال: “هذا هو الاسم الحقيقيّ، وكنتُ كثيرا ما أتذكّر ما تفعله سيّدات البيوت حين يقمن بالتعزيل، والمسح، وأنا كما تعرف، من القائلين أنّ عمل سيّدات البيوت في بلادنا يمكن تصنيفه في خانة الأعمال الشّاقّة، وعلى مَن لا يصدّق ذلك من الرجال أن يقوم بعمل بيتي ليوم كامل ليكتشف حقيقة الأمر”.

alnaem@gmail.com