بين “نبع الإرهاب” وسريالية “السيادة”
لم يكن لغزوة “نبع السلام” العثمانية، بأهدافها المعلنة والمضمرة، وبما رافقها وتلاها من أحداث وأقوال وردود أفعال متباينة، سوى التأكيد على حقائق عدة كانت معروفة للجميع، أولها، أن تركيا أردوغان هي نبع الإرهاب الأكبر والأغزر، الذي سالت مياهه اتجاه سورية خلال السنوات التسع الماضية، وثانيها، أن “فزعة” العرب المستعربة لـ “صدّ” هذا العدوان لم تكن إلا لفظية لا فعلية على ما اعتاده “سادة” البيانات الختامية المجلجلة من قبيل استنكر وأدان وطالب، أما ثالثها وأهمها، فقد رسّخها هدير جنازير آليات الجيش السوري، وهي تتجه شمالاً لتثبت للقاصي والداني، ولبعض الأهل قبل القريب والغريب، أن الدولة هي الحامية الوحيدة للوطن وحدوده، لا أصحاب المشاريع الصغيرة الواهمة والمرتهنة لبائع هنا أو تاجر هناك.
والحال فإن هذا التقدّم العسكري السوري تحديداً – رغم محاولة أمريكا عرقلته نارياً – وبتلازمه الطردي مع التقدّم السياسي المأمول، أعاد كتابة الكثير من الكلمات والجمل في سجل حال المنطقة والعالم، أولها محلي، ومفاده أن قرار استعادة كل شبر من الأرض السورية هو الفيصل بين الوطني والعميل، بصرف النظر عن التباينات والخلافات في أمور داخلية، وأنه قرار سوري نهائي رغم المعوقات والتحديات الناجمة عن أطماع وألاعيب دولية متعدّدة المستويات والأهداف والتطلعات، وثانيها إقليمي ودولي، ومفاده أن حرب سورية، بكل أطوارها وبكل ما استخدم فيها من إعلام وأسلحة وضغوط وجيوش ومجاميع إرهابية، أعادت رسم خطوط النفوذ الجيوسياسية في المنطقة والعالم، فعلى هذه الأرض تظهّر الانسحاب الأمريكي من الأزمات الخارجية المنخفضة المردود بأوضح صوره، كما اكتملت صور العجز الأوروبي، والصعود الروسي، والفضيحة العربية التي تظهّرت بصورتهم مجتمعين بعد أربعة أيام من “الغزوة” في “جامعتهم” ليطالبوا مجلس الأمن الدولي “أخذ ما يلزم من تدابير لوقف العدوان التركي”، فيما كان هذا المجلس قد فشل في فعل أي شيء حين اجتمع قبلهم بيومين كاملين كانا كافيين لتصل لهم مجريات ومخرجات ما حصل فيه وصدر عنه، وبالتالي ليكفوا أنفسهم ذل استجداء الغير كي يقوم بما يتوجّب عليهم فعله.
بيد أن اجتماع الجامعة، وكعادته، لم يمر دون أن يسجّل فيه العرب بعض المواقف الطريفة والسريالية، وأولها، أن الجامعة التي حمّلت في بيانها تركيا “مسؤولية تفشي الإرهاب بعد عدوانها على سورية”، أي العدوان الأخير، كانت متّسقة، ولأول مرة، مع نفسها بصورة تامة، فلو قالت الحقيقة كاملة، وحمّلت تركيا مسؤولية تفشي الإرهاب منذ اللحظة الأولى لما حدث في سورية، لكانت بذلك تدين نفسها أولاً، فهي شريكة أنقرة في كل ما سبق، من التحريض الإعلامي والمذهبي إلى تجهيز حملات “المجاهدين” وغزواتهم بالمال والسلاح والدعاء، ما يعني أن الإدانة الجديدة ليست إلا نتيجة خلاف بين شركاء الجريمة حول المكاسب، أو محاولة شريك اتهام آخر بالمسؤولية الكاملة بعد أن تبيّن الخسارة على مبدأ “انج سعد فقد هلك سعيد”، وبالتالي لم ينعقد اجتماعهم بالأصل إلا وفق المعادلة الشهيرة في تاريخنا المجيد، أي نكاية بـأنقرة وليس حباً بدمشق.
أما ثاني الطرائف، فهو قول أمين عام الجامعة: “إن عودة سورية إلى الجامعة رهن إجراءات مطلوبة من السلطات في دمشق”، وهذا كلام “فلسفي” عميق، يحتاج لتأمّل وتفكّر وتدبّر، لكن ورغم عمقه الفلسفي إلا أنه يبدو مفهوماً ومهضوماً أمام “عمق” استخدام قطر لمقولة “السيادة” تبريراً لتحفّظها على بيان الجامعة، فهي، أولاً، ما كانت لتخسر شيئاً لو لم تستخدم سيادتها هنا، لأن العرب لن يفعلوا شيئاً لتركيا، بل لربما ربحت، مع أشقائها، شيئاً من فضل الدفاع اللفظي عن أرض عربية، أما ثانياً، يعرف الجميع، بمن فيهم قادة الدوحة، أن حديث السيادة، تحديداً، لا يناسبها بالمطلق، فلولا سيادة قاعدة “العيديد” الأمريكية على “سيادتها”، لابتلعت السعودية، الشقيقة الكبرى، سيادة شقيقتها الصغرى في نصف ساعة من هذا الزمان العربي الرديء.
أحمد حسن