الصفحة الاخيرةزواياصحيفة البعث

نوافذ 56

 

عبد الكريم النّاعم

أحد أقربائي أصيب (قاظان) الحمّام في بيته بعطب، فأخذه لأحد الذين يعملون في هذا المجال، وبعد فحْصه قال له الرجل: “هذا لم يعدْ صالحاً، قال: “نأخذ بديلا له، تُرى كم ثمنه”؟، فأجابه: “أربعة آلاف”، فنقده إياها، وهمّ بالمغادرة، فسأله البائع: “وماذا عن (القاظان) العتيق”؟ فأجابه: “خُذه لك، مبروك عليك”، فاتّسعتْ حدقتا المصلّح، وقال له: “كيف آخذه؟! هذا ليس من حقّي، ثمّ إنّ النّحاس الموجود فيه له ثمن، قف قليلا، ووزن (القاظان) القديم، وقال له: “أنا أخذتُ منك أربعة آلاف، وثمن النحاس الموجود في العتيق ألفا ليرة، خذْ”، ومدّ يده بألفي ليرة لقريبي، وقال: “الحقّ حقّ، أتريدني أن آكل مالاً حراماً، وأنا الذي لم يدخل بيتي إلاّ الحلال”؟!!
هذه اليقظة الوجدانيّة العالية، في هذا الزمن البالغ الرداءة، والمزدحم بالبحث عن الشفط، والاعتداء على أموال الآخرين يشير إلى مسألة هامّة، وهي التربية، والأخلاق المزروعة في الناس الأخلاقيّين بيننا، ولا فرق في النتيجة بين أن يكون الدّافع دينيّا، وخوفا من موقف لابدّ أن يَقفه يُسأل فيه عن كلّ ما قام به من أعمال، أو أن يكون ناتج المتانة الأخلاقيّة، فلن ندخل في مماحكة حول أيّهما الأجدر، لأنّ المهمّ هو النتيجة، في التعامل.
رسول الرحمة (ص)، لارسول الدواعش والنّواهش، قال: “مَن غشَنا فليس منّا”، تُرى كم المسافة الآن بين هذا القول، وبين معطيات الواقع؟!! أعتقد أنّ قيمة اليقظة الوجدانية لا تقلّ سموّاً عن نظافة الأداء في كلّ شيء، بل هي شرط مؤكَّد فيه.
*******
عامل في مصفاة حمص مُجِدّ في عمله، متوقّد في ذهنه، انتبه إلى أنّ الدولة تدفع ملايين الدولارات، لاستيراد تركيبة خاصّة من النّفط، لابدّ منها، لمواقع حساسّة، فأصرّ على أن يركّب هذه المادّة ممّا بين يديه، بدافع وطنيّ بحت، وبغيرة ترقى إلى مستوى المسؤوليّة، لاسيّما وأنّه يجد في نفسه هذه الكفاءة، وكان ذلك بالفعل، وكان ما ركّبه مضاهيا لأفضل ما كان يُستورَد، هزتني الحادثة من أعماقي حين رُويت لي، ولكنني بعد فترة تساءلت: تُرى هل وجد هذا العامل جزاء عمله، بما يتطابق مع ذلك الإنجاز؟!!، أنا لا أعرف حتى الآن، ووسوس لي الشيطان أن يكون تكريمه بثناء ما من أيّة جهة كانت، أو بتكريم لفظيّ، في مناسبة ما، يذكرون فيها اسمه، ويصفّق الحاضرون، أوْ قد تُعطى له كرْتونة وقد دّوِّن فيها اسمه ولقبه، بعد الإشادة به، تُرى لو حصل مثل هذا كم سيكون الأمر فاجعا، وظالماً،؟!! أليس من العدل أن يكون الجزاء متجانسا مع جوهر الفعل؟!!
إنّ سوريّة التي تنهض من تحت الأنقاض بحاجة ماسّة لأمثال هؤلاء المُجدّين المُبدعين، ولا أعتقد أنّ شبابنا أقلّ شأنا من غيرهم في هذا المجال، ودليل ذلك وجودهم في مسابقات عالميّة تكنولوجية، وفوزهم بمراتب متقدّمة، رغم شُحّ الدّعم المقدَّم، وهو عبء، في بلادنا تقع أعباؤه على كاهل الدولة، بينما في الغرب تُسارع الشركات العاملة في هذا المجال إلى تبنّي هؤلاء المبدعين، والاستفادة من إبداعاتهم، وتقديم ما يليق بكرامتهم ماديّا ومعنويّا، يجري هذا في البلدان المتقدّمة، بينما يغرق رأسمالنا الوطنيّ، في غالبه إلى إنتاج السّلعة المضمونة الربح والاستهلاك، وهذا نقص في الشعور الوطني، ولا أُنكر أنّ هناك بوارق أمل نرجو لها أن تتّسع حتى تأخذ مداها في تحقيق ما نحن جديرون به.
هنا لا يفوتني أن أشير إلى الحليف الصديق الإيراني، وما حقّقه من إنجازات تكنولوجية، اعتمادا على الذات، وعلى طاقاته البشريّة، رغم الحصار الظالم المضروب عليه منذ عشرات السنوات.
أيّها السادة لسنا أقلّ من غيرنا، ودليلنا الوصول إلى مراحل متقدّمة في عدد من المسابقات العالميّة، والمسألة مسألة صدق في التبنّي والدّعم والمتابعة.

aaalnaem@gmail.com