العودة إلى دمشق
ترجمة وإعداد: هيفاء علي
في مركز المصنع الحدودي، تسير الحياة كما كانت عليه قبل الحرب ولا تزال حتى اليوم، حيث ظل الطريق من بيروت إلى دمشق كالحبل السري الذي يربط سورية ولبنان. بهذه العبارات بدأ الكاتب والصحفي الفرنسي، ريتشارد لابفيير، مقالته التحليلية العميقة التي حملت عنوان “عودة إلى دمشق”.
انتقل الكاتب بعدها للحديث عن العملية العسكرية الأخيرة التي أطلقها الجيش العربي السوري وحلفاؤه ضد معاقل “جبهة النصرة” في ريف حماة الشمالي وريف إدلب، والتي باتت حديث الساعة بين جوقة المتآمرين على سورية، ووسائل إعلامها الناطقة باسمها، تماماً كما حصل عندما خاض الجيش معركة تحرير حلب في كانون الأول عام 2016.
في ذلك الوقت، انكب الإعلام الغربي والإسرائيلي على نشر المقالات التي تندّد بالقصف المستهدف للمستشفيات من قبل الطيران السوري والروسي. الأمر نفسه يتكرر الآن، ومن يسمع هذه البروباغندا يظنّ أن محافظة إدلب تضمّ عدداً من المستشفيات أكثر من أي بلد آخر على هذا الكوكب. في مناسبات عدة، أوضحت السلطات السورية والروسية وقدّمت أدلة دامغة كيف استثمرت الجماعات الإرهابية العديد من المدارس و المراكز الصحية من خلال أخذ المدنيين كرهائن واستخدامهم “كدروع بشرية”، لكن هذه التوضيحات لم تسترعِ انتباه كتّاب الافتتاحيات و المحررين الغربيين الذين يفضّلون تغطية الأحداث في المنطقة والتعليق عليها بالاعتماد على مواقع الانترنت ومصادر المعارضين للدولة السورية.
بعد ذلك، تطرّق الكاتب إلى لجنة صياغة الدستور السوري التي أعلنت الأمم المتحدة عن تشكيلها في 23 أيلول الماضي، مشيراً إلى ضرورة أن تعمل هذه اللجنة التي تتكوّن من أعضاء في السلطة والمعارضة على إعداد الدستور وفتح الطريق إلى الانتخابات العامة، لافتاً إلى أن تشكيل هذه اللجنة يتزامن مع نهاية وشيكة للعمليات العسكرية الكبيرة ضد آخر معاقل “جبهة النصرة”، وأن الجميع يفكرون الآن في إعادة الإعمار في البلاد الذي سيكون شأناً إقليمياً يتجاوز حدود سورية التاريخية، بحسب الكاتب.
تجدر الإشارة إلى أن تشكيل هذه اللجنة يكمل جهود الدبلوماسي ستيفان دي ميستورا، الذي شغل منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في سورية في الفترة من تموز 2014 إلى 17 تشرين الأول 2018، عندما أعلن ترك المهمّة “لأسباب شخصية”. خلال هذه الفترة، شغل ستيفان دي ميستورا أصعب “وظيفة دبلوماسية” في العالم، حيث عمل على إرساء العناصر الأساسية الأربعة: الإصلاحات الدستورية- إعداد حكومة انتقالية- التحضير للانتخابات العامة تحت الإشراف الدولي- وأخيراً الاستمرار في مكافحة الإرهاب.
الإعلام الفرنسي الخائب
يؤكد الكاتب، في مواجهة النصر الكبير لـ الحكومة السورية، نجد الإعلام الغربي وعلى رأسه الصحافة الفرنسية، في حالة يُرثى لها، فإضافة إلى إشادتها وتهليلها بـ”الثورة السورية” باعتبارها استمراراً لـ”الربيع العربي” الذي تمّ إطلاقه في تونس في كانون الثاني 2011، أثنت هذه الصحافة على “القرار الشجاع الذي اتخذه آلان جوبيه” وزير الخارجية آنذاك بإغلاق السفارة الفرنسية بدمشق في آذار 2012. تلاه التصريحات التاريخية التي أدلى بها لوريان فابيوس وزير الخارجية في عهد فرانسوا هولاند عندما قال: “مقاتلو جبهة النصرة يقومون بعمل جيد.. والقيادة السورية ليس لها الحق في أن تكون على الأرض”.
وطالب كتّاب الافتتاحية نفسهم والمراسلون الكبار، الذين غطوا الحرب السورية وهم قابعون في مكاتبهم في باريس، أو في أفضل الحالات في الأحياء الجميلة في بيروت، “برحيل وتغيير القيادة السورية”، ابتهجوا بزهور البندقية، وأشادوا بمشاركة فرنسا -التي قرّرها إيمانويل ماكرون- بالقصف الأمريكي والبريطاني لمطار الشعيرات في حمص ومركز البحوث العلمية في برزة ودمشق في 14 نيسان 2018- رداً على “الهجمات الكيماوية” المزعومة التي لم تثبت صحتها.
في أحد الأيام، سوف يخبرنا المؤرّخون كيف ولماذا قامت صحافة باريس بتضليل المعلومات وفبركة الأكاذيب حول الدولة السورية، كما فعلت مع نظيرتيها الأمريكية والبريطانية في ربيع عام 2003 بشأن أسلحة الدمار الشامل في العراق، والروابط التي تمّ اختراعها بين صدام حسين وأسامة بن لادن. وبعد حين اعترفت الصحافة الأمريكية بالذنب، فهل نتوقع أن تصحو وسائل الإعلام الفرنسية وتعترف بالذنب الكبير الذي اقترفته بحق سورية والشعب السوري؟.
منذ أن بدأت الأزمة السورية، غدت صحيفتا ليبراسيون واللوموند غير مقروءتين تماماً، حيث طغت عليهما هواجسهما المعادية لروسيا وسورية. بينما استمرت صحيفة لو فيغارو في إرسال رينود جيرارد وجورج مالبرونو بشكل منتظم لتغطية “الحرب في سورية، ولكن مع نهاية الأعمال العدائية حان الوقت الآن للعودة إلى المسار الصحيح، حيث لا تتردّد عائلة كونجارو وفيغارو اليوم في الحديث بمرارة عن “انتصار الدولة السورية”.
وهاهو جورج مالبرونو يتناول أهم الكليشيهات التي تكذّب عمله الاستقصائي السابق، ويقول بحرقة: “انتصرت سورية.. فيما بقي خصوم الرئيس الأسد الآخرون، وما تبقى من الإرهابيين محاصرين في إدلب”. والآن لا يزال يتعيّن علينا الانتظار لنرى مصير الإرهابيين، وخصوصاً كيف سيتطور الوضع إلى الشرق من الفرات، حيث أعلن ترامب سحب قواته من سورية بشكل نهائي وتخليه عن دعم الفصائل الكردية في الحزب الديمقراطي السوري وقوات سورية الديمقراطية.
منظمة الخوذ البيضاء الدجالة
فيما بعد تحدث الكاتب عن منظمة الخوذ البيضاء التي تواطأت مع الإرهابيين المتطرفين، والتي شكّلتها الاستخبارات البريطانية MI-6 بأموال أوروبية وخليجية. واستشهد بما كتبه الفيلسوف البرليني ستيفان وينتر، وهو متخصّص معترف به دولياً في الصحافة والاتصال: “تم تصميم الخوذات البيضاء في سورية على يد جيمس ليسموريه، خبير الأمن والمخابرات الإنكليزي، في آذار 2013، في أعقاب لقاء مع ممثلي جمعية الهلال الأحمر القطري. قدّم القطريون تمويلاً أولياً بقيمة 300،000 دولار، إضافةً إلى تمويل من اليابان وبريطانيا والولايات المتحدة.
بعد ذلك تمّ تمويل الخوذ البيضاء من قبل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التي قدّمت 23 مليون دولار، بينما قدّمت وزارة الخارجية البريطانية من صندوق أمن واستقرار النزاعات 24 مليون دولار، والاتحاد الأوروبي 4.5 ملايين دولار، هولندا 4.5 ملايين دولار، وألمانيا 7.6 ملايين دولار، إضافة إلى التمويل من الدانمرك واليابان، والمديرية العامة للحماية المدنية الأوروبية والإنسانية، وصندوق “جو كوكس”.
ثم يتابع الكاتب الفرنسي، في عام 2016 كانت هناك محاولات لمساعدة الخوذ البيضاء في الفوز بجائزة نوبل للسلام، لكن لم يحقّق رجال الإنقاذ هذا الهدف، لأن العديد من النقاد قالوا إنه خلف صورة الخوذ البيضاء هناك إرهابيون من “جبهة النصرة”. حتى عندما وصل مدير الخوذات البيضاء رائد صالح إلى واشنطن في نيسان 2016 منعته وزارة الأمن الداخلي من دخول الولايات المتحدة، وبالكاد نجا من حقيقة أن مجرمي الخوذ البيضاء يحصلون على جائزة نوبل للسلام.
في هذا السياق، ألقى رئيس المنظمة غير الحكومية الروسية “مؤسسة دراسة الديمقراطية” مكسيم غريغورييف في 17 أيلول الفائت، محاضرة قيّمة في المركز الثقافي الروسي في باريس حول دعاية هؤلاء “الخوذ البيضاء”، وقدّم تقريراً استناداً إلى عشرات الشهادات والتحقيقات الميدانية التي أُجريت على مدار عدة سنوات، وكشف عن الوجه الحقيقي لهذه المنظمة غير الحكومية الزائفة التي تضمّ تحت رايتها العديد من المنظمات الإجرامية، وشبّه “الخوذ البيضاء” بجيش تحرير كوسوفو برئاسة هاشم تاشي الذين شاركوا في تهريب منظم للأعضاء البشرية من المخطوفين والأسرى لديهم.
عندما تستيقظ بروكسل..
ثم مضى الكاتب للحديث عن يقظة الاتحاد الأوربي بعد سبات دام قرابة تسعة أعوام، وهو عمر الأزمة السورية، حيث بدأت تدور في أروقته أحاديث حول ضرورة إعادة فتح السفارات الأوربية في دمشق، قائلاً: “من منظور نهاية العمليات العسكرية الكبيرة وانطلاق إعادة إعمار سورية، تستمر الفكرة في وتيرتها، وهي إعادة فتح جميع التمثيل الدبلوماسي لبلدان الاتحاد الأوروبي التي كانت موجودة في دمشق قبل آذار 2011”. قد تؤدي هذه اللفتة السياسية القوية إلى إحياء التعاون مع الحكومة السورية في ثلاثة اتجاهات: الإصلاحات الدستورية والسياسية- التعاون لمكافحة الإرهاب- وأخيراً إعادة الإعمار الاقتصادي.
وكما كتب جان داسبري مؤخراً: “الأمر يتعلق بكسب السلام، وسيأتي الوقت لإعادة إعمار سورية. ومع كل الإرادة الطيبة، لا يمكن لفرنسا أن تلعب سوى دور ثانوي في هذا. وبالنظر إلى تدهور وضعها الاقتصادي والاجتماعي، يجب أن تعود مهمّة إعادة الإعمار إلى الاتحاد الأوروبي، وهي شرعية في هذا الموضوع بالنظر إلى الوسائل المالية المتاحة لها. ولكن لذلك، لا يمكن أن تكون عمياء عن الوضع الراهن على الأرض، بمعنى أنه يجب تفعيل التمثيل الدبلوماسي”.