“أطلالنا”.. تعرية للحياة السعودية من الداخل
ربما الهدف الرئيس من كتابة رواية “أطلالنا” هو تعريف المجتمع الأمريكي والأوروبي بالتضاريس المعقدة للمجتمع السعودي الذي يعاني اليوم من التطرف والتعصب الديني، فالرواية ملحمية ومأساوية ومجهدة في بعض الأحيان، وهي الرواية الأولى التي كتبتها كايا بارسنين الأستاذة الجامعية وتدرس الأدب الأمريكي في جامعة تولسا في ولاية أوكلاهوما الأمريكية.
ترجم الرواية محمد إبراهيم العبد الله وكان على تواصل مع الكاتبة على مدى السنوات الثلاث الفائتة لينعكس إيجاباً على العمل المترجم، فقد زودته الكاتبة من خلال هذا التواصل بعض الملاحظات التي تتعلق بأسماء الأماكن والشخصيات، وتصحيح بعض الكلمات العربية المستخدمة في الرواية، كما أن التواصل مع دار النشر العريقة فابر آند فابر التي نشرت الرواية بلغتها الأصلية “الانكليزية”، وماقدمته هذه الدار من تسهيلات تتعلق بالموافقة على الترجمة والنشر، كان حافزاً إضافياً لإنجاز هذه الترجمة.
عند قراءة رواية “أطلالنا” يخيل للقارئ أنه يقرأ بولسيس لجيمس جويس، حيث الشخصيات متلاحمة ومتشابكة ومثقلة بالذكريات التي تحاول أن تدفع بها إلى أعماق الذاكرة، لكن كلما دفعت بها إلى الخلف ازدادت قوة واندفاعاً نحو الأمام، فالشخصيات تعيش في كثير من الأحيان نوعاً من الهلوسة، وتقذف بهم الذكريات بعيداً، لهذا نجد في مواضع كثيرة يختلط الواقع بالخيال وتتزاحم الصور في أذهان الشخصيات لدرجة يصعب فك الاشتباك بين الماضي والحاضر، وبين الحلم والحقيقة.
الشخصية المحورية في هذه الرواية امرأة أمريكية تدعى روزلي، تتعرف بشاب سعودي يدرس معها في جامعة تكساس، يسمى عبد الله البيلاني وتتزوجه. بعد انتهاء دراسته، يرجع الاثنان إلى المملكة ويصبح عبد الله هناك تاجراً كبيراً ذائع الصيت، أمضت روزلي أكثر من عقدين من الزمن مع زوجها عبد الله لكن ما إن أصبح طفلاهما فيصل ومريم في سن المراهقة حتى بدأ حبهما يخبو ويفقد بريقه، أخلصت روزلي لعبد الله أيما إخلاص، وألزمت نفسها على ذلك في بلد يفرض أشد القيود كلبس الحجاب ومنع قيادة السيارة للنساء والرقابة الصارمة التي يفرضها الزوج على الأقل في العلن.
تكتشف روزلي بعد سنتين أن عبد الله لديه زوجة ثانية من أصول فلسطينية تدعى إسراء، وحين تلتقي بها تفاجأ بجمالها ومستوى ثقافتها ومقدرتها على التحدث بلغات متعددة، تغضب روزلي من نبأ زواجه الذي علمت به بمحض المصادفة، وتنبعث فيها من جديد روح المقاتلة لأهالي تكساس وتبدأ بالتعبير عن غضبها، وتفكر بالهروب من المملكة ومرشدها في ذلك “دان” الشخص الأمريكي المولد، وعشيقها السابق ويعمل موظفاً عند عبد الله، لكن عملية الهروب ليست سهلة بالنسبة إليها خاصة أن طفليها في سن المراهقة ويتطلبان مزيداً من الانتباه، ابنتها مريم تستهويها الثقافة الغربية بشكل متزايد، تقرأ كتباً محظورة، وتخرج في كثير من الأحيان عن الأعراف والتقاليد السائدة في المملكة، ما أثار غضب السلطات السعودية، أما ابنها فيصل فتستهويه التيارات السلفية الإسلامية ويميل بحديثه دائماً إلى مهاجمة الثقافة الأمريكية هذه الأحداث تنسجها الكاتبة على نحو أنيق على رقعة شطرنج الرواية. تقدم لنا بارسنين الشيء الكثير عن الحياة في السعودية من الداخل، بدءاً من العلاقة النفعية المعقدة مع الأمراء الحاكمين وصولاً إلى وصف حرارة الصحراء الحارقة، وانتهاء بالوسائل التي يتبعها الشبان في ملاحقة البنات ومضايقتهن في “مولات التسوق”. نثر الكاتبة مبدع دون أن يكون ميلودرامياً أو مبهرجاً أو إجبارياً، الحبكة في الرواية تتناول شخصية فيصل بأدوار عديدة حيث ينخرط هذا الشاب المراهق بعلاقة مع الشيخ إبراهيم المجاهد المعارض الذي يتعلم منه الأفكار المتطرفة الهدامة، واللغة الخطابية التي يهاجم بها أمريكا ودول الكفر الأخرى، وتسلط الكاتبة الضوء على هذه الشريحة من المجاهدين الذين فقدوا أطرافهم في أفغانستان حينما دفعت بهم السلطات السعودية في ثمانينيات القرن الماضي للقتال ضد القوات السوفيتية في أفغانستان.
حينما نقرأ الرواية نشعر بالإحباط، ويصعب التنبؤ بأنه ناتج عن قيود النص عند بارسنين أو أنه ناتج عن القيود الحقيقية للحياة المعيشية في السعودية، فهناك بعض المشاعر الجوفاء البعيدة عن الحياة العصرية الواقعية: الزواج على سبيل المثال، تقول الكاتبة “ألم يكن هذا الزواج تعبيراً عن تلك العاطفة المفاخر بها، وذلك الحب الأكثر مصداقية؟ وإذا كان أحدنا محظوظاً لدرجة يمكنه أن يحس بالحب مرتين في حياته حسناً لم لا؟”.
تقرر روزلي في نهاية المطاف أن تبقى مع زوجها على الرغم من خيانته لها لأنها كما تقول: “ابن الحرام هو حب حياتي، وسعادتي ترتبط به، وفضلت أن أعيش هذه الحياة المتصالحة معه على أن أبقى وحدي على أرضيتي الأخلاقية السامية، فهو رجل طيب يا دان أنت تعرف هذا”.
لكن يصعب أن نجد في الرواية بكاملها رجلاً طيباً، عبد الله رجل غني وقوي ويبدو راضياً جداً لكن يهمش المرأة التي تخلت عن كل شيء لتكون معه: حرية القيادة، ارتداء الجينز، عدم مجالسة أي رجل سوى زوجها أو ابنها أو والدها، لقد تخلت عن الحرية وتخلت عن الطلاق لتبقى وتربي أطفالها، تتبنى بارسنين هذه العلاقة غير المتكافئة والمثيرة كونها علاقة ترتكز على حب كبير وملحمي.
العلاقة بين روزلي وعبد الله تنتهي بالصدق والتصالح في النهاية، فالرواية تنهي فرضية الشك التي بنيت عليها في بدايتها، روزلي لم تعد غاضبة لكن عبد الله لا يسامحها، والزوجة الثانية لاتزال موجودة لكن عبد الله لم يعد مرتاحاً مع مبرراته الذاتية، فيصل يختار في النهاية عائلته المتصالحة على النقاء العقائدي الذي يدعي أنه يحمله، لكن الاختيار لم يكن سهلاً، ومع أن الرواية تنتهي بنوع من المصالحة الكبرى لكن لا تنتج هذه المصالحة عائلة نموذجية ولا تنتج أي قرار يضع حداً للصراع فيما بينهما.
جمان بركات