شيخ اللصوص.. وأوهام المناقلات الديموغرافية
من الصعب أن تقبل بوقف القتال بعد أقل من أسبوع على اتخاذك قرار الحرب، ولكن هذا، بالضبط، ما فعله أردوغان، حين قرّر فجأة، وبسرعة غير متوقّعة إلى حد ما، العودة إلى “اتفاق أضنة”، بعد أيام على بدء غزو قواته للأراضي السورية..
يعكس الأمر، في جانب منه، استهانة أردوغان بجيشه التركي، ونظرته إلى القوات المسلحة التركية كميليشيا خاصة تحت الطلب تخضع لإمرته المباشرة، وتكرّس وجودها لخدمة أهوائه ومزاجاته السياسية الشخصية؛ كما يعكس، من جانب ثان، ضعف الخبرة القيادية لدى رئيس يحرّك الجيوش إلى أقصى اليمين، وإلى أقصى اليسار، ويتقدّم ويتراجع بها، دون أن يدرك، أو يهتم لأبعاد الذهاب إلى الحرب والتردّد فيها، ودون أن يدرس بدقة خيارات العودة، وبما لذلك من تأثير مدمّر على معنويات مقاتليه؛ وثالثاً، وأخيراً، هو يعكس القصور الاستراتيجي لـ “زعيم” لا يتعامل مع السياسة إلا بصفتها ألاعيب وحرتقات وقرارات فردية لا يتورّع في إطارها عن الزج بقدرات ضخمة وهائلة على أمل تحقيق نتائج سريعة، ولكنها في النهاية جد متواضعة، كأن يكتفي، مثلاً، من الغزو بعودة الجنود مع بعض الغنائم الفردية، وتحويل عملية تحريك الجيوش خارج الحدود إلى رحلة للنهب واللصوصية، في نوع من إعادة إنتاج الاحتلالات العثمانية في المنطقة العربية خاصة.
هكذا انتقل شيخ اللصوص من سرقة صناديق الاقتراع في إسطنبول، إلى سرقة المساجد التاريخية والمنشآت والمعامل والمحطات الكهربائية ومحطات المياه في حلب، ينهب آثار المدينة ومعامل أدويتها وسلالاتها الزراعية المطوّرة، وإلى لص ماركة مسجلة لدى “داعش” هرّب النفط والقمح والقطن، فإلى لص دولي يطمع بالاستيلاء على أراضي دولة أخرى؛ وهكذا قرّر، أيضاً، الموافقة على إعادة تحريك العمل باتفاق أضنة بعد فترة طويلة من التجاهل المقصود والمتعمّد، لتتراجع في سياق ذلك مشاريع ومخططات سرقة الأراضي التي كان ينظر إليها بصفتها الحل السحري للتخلّص من كل ما خلّفه انخراطه الغبي الأحمق في الأزمة السورية طوال السنوات الماضية.. أردوغان الذي كان راهن على حلم دخول دمشق والصلاة في جامعها الأموي “فاتحاً”، لم يعد يعنيه العمل العسكري إلا بصفته أداة لإرغام الأطراف الدولية للتدخل وإخراجه من الورطة التي حشر نفسه ونظامه فيها، بدلاً من تركه “يقلّع” أشواكه بيديه، ولوحده.. إنه يريد التخلّص من “كرم الضيافة”، الذي لطالما تغنى به أمام الميكروفونات، تجاه “اللاجئين” السوريين الذين شجّع وعمل على تهجيرهم من بيوتهم وبلداتهم، منذ الساعات الأولى للحرب على سورية، لأغراض مبيّتة، لينتظر السنوات الطوال قبل أن يدرك حقيقة أن رهاناته كانت في غير محلها، وأنه بات عليه أن يتحمّل فداحة المشكلة التي صنعها لتركيا..
“مليون”، أو “مليونان ونصف”، أو “ثلاثة ملايين ونصف”، أو “أربعة ملايين ونصف المليون” لاجئ سوري، بينهم “أربعمائة ألف كردي” – حسب الحاجة والضرورة – يتعيّن عليه أن يتخلّص منهم، تارة بترحيلهم عبر قوارب الموت إلى الشواطئ الأوروبية، وتارة بجعلهم وقوداً في معاركه الدونكيشوتية شمال سورية، وتارة بمحاولة إعادة “توطينهم” في “بلدهم الأم”، ولكن في مناطق استولت عليها ميليشياته الإرهابية بالقوة، وفي إطار ما يعتبره “مناقلات ديموغرافية” يحق له فرضها كتعويض عن الخسائر التي مني بها في ساحة الرهانات الفاشلة.. لقد خمّن كثيرون أن عجوز العثمانية الجديدة يتطلّع إلى إقامة حزام ديموغرافي داخل الأراضي السورية، وعلى طول الحدود مع الجمهورية العربية السورية، لأهداف أمنية تتعلّق بتسلل مسلحي حزب العمال الكردستاني، في حين أن القصة الحقيقية تدور حول “كتلة لاجئة”، كانت فيما مضى قصة “أخوة”، و”معاناة نتقاسمها معاً”، وأصبحت مع انسداد الأفق الأردوغاني عبئاً اجتماعياً واقتصادياً في الداخل، ومصدر جدل على الساحة السياسية المحلية، وقضية لها تبعاتها الأمنية الخطيرة على تركيا، وورقة محترقة في ابتزاز أوروبا.
لن يلتزم فأر الأراضي باتفاقه الأخير مع بوتين.. هو اضطر للتوقيع مرغماً كما في كل مرة، وسوف يحاول التملّص منه في أول فرصة ممكنة، أو في أول مشكلة بوسعه افتعالها على أمل جر الآخرين لحلها. ولكن الجيش العربي السوري يعزّز انتشاره بكثافة في أرياف الرقة والحسكة وحلب، والشرطة الروسية باتت حاضرة، في وقت جدّد ترامب أمس عزمه على الانسحاب من حروب الشرق الأوسط “السخيفة”، ولن نتحدّث عن قتلى الميليشيات الأردوغانية، الذين أعلن عنهم بالجملة.. لقد تمّ سحب الذرائع كاملة، والضمانات متوفّرة.. يبقى أن يبرهن اللص أنه كف عن مزاولة المهنة المتوارثة، وإلا فـ “نافذة الفرص” باتت مغلقة نهائياً.
بسام هاشم