تنظيم “القاعدة” في المقاربة الأمريكية
هيفاء علي
يزعم مراقبون أميركيون أنه بعد مرور 18 عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وإطلاق إدارة بوش حربها العالمية ضد الإرهاب، عملت الولايات المتحدة على تقليص حجم تنظيم “القاعدة” إلى أبسط صورة.
ولكن برأي مراقبين آخرين فإن هذه القراءة سطحية بشهادة الوقائع والمعطيات والتطورات الجديدة، حيث تزامنت ذكرى 11 أيلول 2019 مع التوصل إلى حلّ وسط بين واشنطن وحركة طالبان إلى أن ألغى ترامب هذه الصفقة، والتي كانت تنصّ على انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مقابل ضمان سلامة قواتها عند انسحابهم ومغادرتهم أفغانستان، مقابل تعهد طالبان بعدم دعم تنظيمات أخرى مثل “القاعدة” في المستقبل. والسؤال الذي يطرح هنا: لماذا تريد “القاعدة” مهاجمة الولايات المتحدة من أفغانستان؟ أو من أي مكان؟ ألم ينته الأمر بالولايات المتحدة إلى التوفيق بين الأهداف الأكثر أهمية لتنظيم “القاعدة”؟ في الحقيقة، تركز ذلك التوفيق الأمريكي على محاربة المنافس، تنظيم “داعش” الإرهابي، ومن ثم محاربة إيران، وسورية، والمقاومة اللبنانية واللجان الشعبية في اليمن، وخلق ظروف أكثر ملاءمة للتطرف في الشرق الأدنى والأوسط، لكن حتى الآن لم يصدر أي ردّ فعل من قبل تنظيم “القاعدة” على الإعلان الأمريكي الأخير بإرسال قوات أمريكية إضافية إلى السعودية عقب الهجوم على منشأة أرامكو للنفط.
وبالعودة إلى الوراء، ففي الفترة التي سبقت وتلت الحرب الأمريكية الأولى ضد العراق في عام 1991، أرسلت الولايات المتحدة الآلاف من الجنود الأمريكيين إلى الأراضي السعودية، حيث يعتبر آل سعود أن إيران هي عدوهم وليس الكيان الإسرائيلي أو حاميته الولايات المتحدة. كما أن تنظيم “القاعدة” لم ينفذ أي هجوم ضد الكيان الإسرائيلي ولا حتى ضد الولايات المتحدة، وهنا يبرز سؤال آخر هو: ماذا فعلت “القاعدة” بعد هجمات الحادي عشر من أيلول عام 2001؟.
“القاعدة” لم تعد تعتبر الولايات المتحدة هدفاً ذا أولوية، ويبدو أن هذا الشعور متبادل، فبعد مقتل بن لادن في عام 2011، مضى كل شيء كما لو أن واشنطن ظنّت أن الحساب قد أُغلق، وأنها لم تعد تشكل تهديداً، خاصة مع ولادة طفل جديد في المشهد الإرهابي هو “جبهة النصرة” التي تمثل فرع تنظيم “القاعدة” في العراق.
حلفاء في سورية
تقارب المصالح الذي تطوّر بين الولايات المتحدة و”القاعدة” بدا واضحاً في سورية، وخلال عهد أوباما نقلت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأسلحة والمعدات إلى الجماعات الإرهابية في سورية، وهي تعلم تماماً أن العديد من هذه الأسلحة والمواد ستقع بأيدي المجموعات التابعة “للقاعدة”، وخاصة “جبهة النصرة” التي وُلدت فرعاً لتنظيم “القاعدة” في سورية. ولتجنّب المساءلة الدولية، عملت “جبهة النصرة” على تغيير اسمها ليصبح “جبهة فتح الشام”، ثم “هيئة تحرير الشام”، لكنها لم تغيّر إيديولوجيتها الإرهابية المتطرفة ولا سلوكها الإرهابي في المناطق التي تسيطر عليها، حيث تمارس هيمنةً وطغياناً مستوحى من فكرها المتطرف.
في عام 2011، قامت الولايات المتحدة من خلال حشد جميع الوسائل الهائلة المتاحة لها لإضعاف الدولة السورية، ومحاولة تغيير نظام الحكم فيها عبر استثمار وتوظيف “جبهة النصرة” دون الاكتراث بالعواقب، ولتحقيق هدفها في تغيير الحكومة قامت بفتح الطريق أمام سيطرة الإرهابيين على جميع أنحاء سورية، وحتى لو لم تقم الولايات المتحدة بإيصال الأسلحة مباشرة إلى الجماعات الجهادية فقد سمحت للوكيل التركي القيام بذلك. والمستغرب هنا أن واشنطن تهدّد الحكومة السورية وحلفاءها الروس باستمرار لأنهم يعملون لطرد “جبهة النصرة” من إدلب، وفي عام 2018، هدّدت واشنطن بقصف سورية إذا لم يتوقف الجيش السوري عن التقدم في عملياته العسكرية لاستعادة إدلب، ما أثار تعليقات قاسية في بعض وسائل الإعلام الغربية بأن القوات الجوية الأمريكية، التي قصفت بالفعل مواقع سورية مرتين (في عامي 2017 و2018) كانت بمثابة الجناح الجوي لتنظيم “القاعدة”. فقد بذل المسؤولون الأمريكيون جهوداً كبيرة في محاولة يائسة لعرقلة عمليات الجيش السوري في محاربة الإرهاب، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات جائرة على الشعب السوري، وهي ترفض المساعدات الدولية لإعادة الإعمار وتضغط على الدول الأخرى حتى لا تعيد العلاقات مع سورية.
ولهذا الغرض قامت بتشكيل مجموعات تحت مسمّى إنساني “الخوذ البيض” التي انفضح أمرها وتواطؤها مع التنظيمات الإرهابية المختلفة، وخاصةً جبهة النصرة.
ليس هذا فحسب، بل عملت الإدارة الأمريكية على تشجيع مؤسسات الفكر والرأي المعادية لسورية وروسيا، وبذلت قصارى جهدها لتشكيل خطاب إعلامي مهيمن ضد سورية.
التقارب الفعلي بين الولايات المتحدة والقاعدة واضح بالقدر نفسه في اليمن، حيث تدعم الولايات المتحدة التحالف العسكري الذي تقوده مملكة آل سعود للإطاحة باللجان الشعبية، وأدى العدوان السافر الذي تقوده مملكة آل سعود وبمباركة وتدخل أمريكي منذ خمسة أعوام إلى تدمير البنية التحتية في اليمن وانتشار الأمراض والأوبئة، خاصة مرض الكوليرا الذي طال الأطفال جراء التلوث وسوء التغذية ونقص الأدوية، إضافةً إلى تشريد الشعب اليمني واستفحال المجاعة بسبب الحصار الجائر المفروض على اليمن من قبل الغرب.
بالطبع ساعد دعم الولايات المتحدة للمقاتلين الأفغان الذين قاتلوا روسيا في تهيئة الظروف لظهور تنظيم “القاعدة” في ذلك البلد، كما ساعد تحريك الفوضى تحت مسمّى “الربيع العربي” في ليبيا والعراق وسورية وتونس في خلق ظروف مواتية لظهور الإرهابيين وغيرهم من الجماعات في هذه البلدان. وعليه يبدو أن مهندسي السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط أدركوا فشلهم الذريع في محاولة إظهار أن إيران قد حلّت محل تنظيم “القاعدة”، ربما لهذا السبب حاول وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي يتوق إلى تشويه سمعة إيران، تصويرها على أنها حليف سريّ لتنظيم “القاعدة”، وهو أمر لا يستطيع المراقب النزيه فعله.
بالمجمل، إن السؤال الذي يطرح نفسه بعد 18 عاماً من أحداث 11 أيلول هو: هل سينقلب هوس وهاجس الولايات المتحدة بإيران عليها كما في مغامراتها السابقة، وهل سيؤدي مرة أخرى إلى تحريك لعبة المتطرفين ورثة بن لادن؟.